تحلم كل أسرة ببناء منزل خاص بها. يبدأ كل شيء في هذا الكون بفكرة بسيطة. يتصور الأب ويتخيل في أول الأمر شكل البيت الذي يحلم به. تتوارد أفكار مختلفة على رأسه. بعد أن يحدد مكان المنزل يضع له مخططا. ثم تبدأ عملية البناء تدريجيا من الأساسات فالسقف فالجدران. تُمضي بعض الأسر سنوات في البناء، تحرص في أثناء ذلك أن يكون البيت المنشود ذا جودة عالية، وأن يكون كاملا. يبني الأب البيت لأولاده وأحفاده وأولاد أحفاده. لا يوجد أغلى من البيت الذي نبنيه بسواعدنا. ليس البيت في نهاية الأمر مجرد جدران ونوافذ وغرف، إنه الدم والمأوى ونصيب الإنسان في هذه الحياة. قال الكاتب أنطوان دي سانت أكزوبري في أحد الأيام: "إذا كنت تريد معرفة جوهر بيت ما فقم بتفحصه وانظر إلى طوبه وقرميده. إلا أنك لن تستطيع في هذه الحالة أن تكتشف فيه الهدوء والراحة والجو المناسب، التي وضعت الجدران والطوب والسقف القرميدي من أجلها. ماذا يمكن أن يعطينا الطوب والقرميد إذا ما فقدنا الفكرة التي جمع المهندس المعماري كل هذه العناصر لأجلها. يعرف الكثير من الناس، خاصة الكبار منهم، أن بناء المنزل ليس بالأمر البسيط، لكن الأصعب منه بناء دولة فتية، كازاخستان بيتنا المشترك. لقد تطلب بناء كازاخستان وضع خطة شاملة واضحة فيها مؤشرات واضحة عن الدولة التي سنعيش فيها. لا يمكن لتاريخ الاستقلال، بما فيه من جفاف وبما يحمله من طابع رسمي، تجسيد كل قصص ومصائر الناس، حيث يتحول كل حدث إلى بؤرة من المآسي والمصائب والصراعات الحادة بين مصالح المجموعات والأجيال المختلفة. لكن الله طبع الإنسان على سرعة نسيان الماضي، بما فيه من مآس. اعتاد الناس على السلام والهدوء، وزاد طلبهم على السلع، وصاروا أكثر ثقة وتفاؤلا بحياتهم الذاتية والمستقبل الذي ينتظرهم، أشياء اعتيادية. إننا لا نشعر بذلك تماما مثلما لا نشعر بأشعة الشمس التي ترتفع رويدا رويدا كل صباح فوق الأبنية العالية في أستانة. لم يكن لأحد أن يصدق قبل عشر سنوات بأن الذي حصل يمكن له أن يحصل. من كان يصدق أن تصبح أستانة مركزا روحيا واقتصاديا وسياسيا لكل منطقة أوروآسيا؟ من كان يصدق أن تصبح كازاخستان دولة رائدة في مجال الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، ومركز الثقة في المنطقة. هذا بالضبط ما دفعني لكتابة هذا الكتاب. أود أن أقص عليكم في هذا الكتاب عن الجهود التي بذلت لتصبح كازاخستان دولة مستقلة وعصرية. ما سبق بعض مقدمة كتاب موسوم ب (الطريق الكازاخستاني)، ومؤلفه هو نور سلطان نزاربايف رئيس جمهورية كازاخستان، إحدى جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت ترزح تحت حكم الاتحاد السوفيتي ونالت استقلالها بسقوطه. عندما قال الرئيس نزاربايف: (أودّ أن أقص عليكم...) كان الأمر عاديا بالنسبة لي، مع أن المفترض غير ذلك حيث تزداد لهفة القارئ لمعرفة تفاصيل الخطط والبرامج وملامح الاستراتيجيات التي صنعت قصة النجاح، والسبب وراء ذلك هو قراءتي لصفحات الكتاب قبل أن أراه من خلال واقع الحال الذي عاينته بنفسي خلال زيارتي للعاصمة أستانة وملاحظاتي المباشرة للإنسان الكازاخي الذي وضع رجليه على بداية الطريق وراح يرسي لنفسه قيما وتقاليد حضارية مع أن الفترة التي مرت على إعلان الاستقلال قصيرة نسبيا. داعي الزيارة كان الدورة الثامنة والثلاثين لمجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي (المؤتمر الإسلامي سابقا)، تلك الدورة التي تشهدها العاصمة الكازاخستانية لأول مرة، وتتوقع منها المنظمة، كما الدولة المضيفة، أن تترك بصمات إيجابية واضحة على علاقات هذه الجمهورية السوفيتية السابقة مع العالم الإسلامي. الانطباع لم يكن شخصيا، فالانبهار بالتجربة الرائدة والتقدم ومظاهر المدنية كان شعورا لدى جميع أعضاء الفريق الصحفي تقريبا، وأكثر من ذلك كان واضحا لدى أغلب من تحدثتُ إليهم من الرسميين الذين مثّلوا بلدانهم في اجتماعات المنظمة.. كان انبهارا بالتقدم الذي وصلت إليه دولة حديثة ورثت أعباء ومآسي الفترة السوفيتية. وبعد الانبهار تأتي الخطوة التالية وهي المقارنة التي لا مفرّ منها، ولأن العيّنة المشاهدة، بلغة البحث العلمي، هي العاصمة أستانة فقط شدّتني سرعة القرار في جمهورية كازاخستان، ما بعد الاستقلال، مقارنة بما حدث عندنا في جزائر ما بعد الاستقلال أيضا. عام واحد وتسعين من القرن الماضي ترفع كازاخستان علمها الخاص وتعلن نفسها دولة مستقلة، وفي عام أربعة وتسعين وُلدت فكرة نقل العاصمة من ألماتا إلى مكان آخر، وعام خمسة وتسعين وافق البرلمان على نقل العاصمة إلى أستانا، وعام ثمانية وتسعين كانت العاصمة الجديدة تستقبل الإدارات والمؤسسات وتواصل عملية البناء والتشييد واستقبال المواطنين ليصل سكانها الآن إلى سبعمائة ألف ساكن وسط نسيج عمراني مدهش يجمع بين الأصالة والمعاصرة. في الجزائر تعود فكرة نقل العاصمة نحو مكان فسيح إلى سنوات الاستقلال الأولى، أو عهد الرئيس الراحل هواري بومدين على الأقل، ومع ذلك ما زالت الفكرة تراوح مكانها، وما زالت الخطط والمشاريع تحاول إصلاح شأن العاصمة الحالية وتوسيع طرقاتها وفضاءاتها، لكنها سرعان ما تضيق على أهلها من جديد. لا شك أن للتجربة الكازاخستانية مواطن ضعف، لكن وجه العظمة فيما تحقق هو ذلك العدد الهائل من الإثنيات التي تحملها البلاد بين جنباتها، حيث تصل إلى أكثر من مائة وعشرين إثنية فقد عمل الاتحاد السوفيتي طوال سبعين عاما على ضخّ أعداد كبيرة من السكان إليها حتى عُرفت بمخبر القوميات.. العبقرية أن تصنع لجميع تلك العرقيات والديانات رؤية واحدة تتوحد من أجلها وتكافح لأجل الوصول إليها.