التيار التغريبي في العالم العربي سطى على كلمات براقة وجلعها عناوين للدلالة عليه، وقناعا يتستر وراءه ليخفي ممارسات لم تعد خافية على الرأي العام، فهذا التيار الذي وقف موقف "الزبون" الفكري من الحضارة الغربية، يجلب الأفكار معلبة ويريد أن تستهلكها المجتمعات المحلية دون روية ولا تريث، وكل ميزتها أنها جاءت من "هناك"، تماما كما يفعل مستوردي السلع والمنتجات الاستهلاكية.. صحيح، أننا أمام حقيقة لا يرقى إليها الجدل و لا حتى مجرد النقاش، وهي أننا مجتمعات متخلفة، وتخلفنا لا يكاد يغادر مستوى من مستويات الحضارة إلا ومسه، فالتخلف التنظيمي والسياسي رمى بنا في وهاد الاستبداد ونظم حاكمة بالإكراه ووسائل القمع، وتعتمد في عملها على المعطى الأمني كمؤشر وحيد للاستمرار في خلافة نفسها وتبديل واجهاتها، وتخلف علمي وتقني جعل من جامعاتنا ومعاهدنا العلمية تسير بذهنية روضة للكبار، تحتضن الشباب لسنين حتى إذا كبروا جاء من يخلفهم في مقاعدهم التي غادروها وفي أيديهم "شهادات" ليست بالضرورة عاكسة للمستوى العقلي والمعرفي لحامليها، وتخلف أخلاقي غابت معه قيم العمل والأمانة والتضحية والشرف والصدق.. لكن هل يكفي أن نستورد السلع من المجتمعات الأخرى المنتجة، لإطعام الأفواه المشرعة، ودون أن ننتبه إلى أن كل فم خلق الله لحامله يدين يمكنهما إطعامه لو تحركتا للعمل؟ وهل جلب شعارات الفضيلة والعمل والتضحية يمكن أن تصلح أوضاعنا المتردية في هذا المجال، وهل يمكن أن ننام ونستفيق على مجتمع "العصرنة" والمبادئ الديمقراطية التي مذهب العنف في الحفاظ على السلطة أو طلب الوصول إليها، وهل يمكن أن نكون ديمقراطيين دون السير في طريق تدريب المجتمع واحترام خيارات وان كانت "مخطئة" في تقديرنا أو بحسب اجتهادنا.. مأساة المستغربين الكبرى هي هذه، هي أنه يشعرون بغربة مزدوجة، فهم في المجتمعات الغربية غرباء، ومدركون أنه ليس بوسعهم أن ينالوا أكثر من موقع الغريب الوافد أو الشحاذ الذليل، وهم غرباء في مجتمعاتهم الأصلية، ويظهرون إزاءها كثير من الاستعلاء قد يصل غلى الاحتقار والاسفاف، فكل خيارات المجتمع "ضالة"، قد تؤدي في بعض المواقف إلى التنصل من المجتمع كله، كما عبر عن ذلك سعيد سعدي ذات يوم: "لقد أخطأنا في المجتمع" ! ولعل الأمر الذي جعل من هذا التيار يخسر مصداقيته هو استعداده للمغامرات الخارجية والداخلية للحفاظ على "مكتسباته" النفعية، فالأنظمة التي لا يتردد هذا التيار في وصفها بنعوت الإستبداد و التخلف بدا واضحا أن ذلك النهج لا يعدو وسيلة ابتزاز لتقاسم المنافع والريوع، ولإفتاك مواقع على المشهد الرسمي العلني أو الخفي المبطن، ولا يستغربن أحد بعد ذلك، أن يرى أن كبار عرابي الديمقراطية والتعددية الحزبية، والانفتاح الاقتصادي والتبشير باقتصاد السوق، كثير منهم كان بالأمس القريب من الرفاق اليساريين المستمتين في الدفاع عن البروليتاريا والطبقات المسحوقة والحزب الطلائعي.. تذكرت كل هذه المعاني وأنا أطالع نتائج التصويت الذي دعت المجلة الأمريكية الشهيرة "فورين بولسي" قراءها وزوار موقعها الالكتروني لترشيح من يرون أنه الأهم فكريا والأكثر تأثيرا في الرأي العام، وانتهت فترة التصويت شهر ماي الماضي (2008)، وجاءت نتائج التصويت مدهشة فلقد احتل الشيخ يوسف القرضاوي المرتبة الثالثة والداعية الشاب عمرو خالد المرتبة السادسة عالميا، وتأتي هذه النتيجة بعد الحملة الكبرى التي رافقت ما يعرف بمحاصرة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر، والمعنى القريب للنتائج أن اتجاهات التأثير في العالم الإسلامي على الأقل لم تتأثر بضراوة الحملة، وبقي التفريق قائما بين المبادئ ومن يستخدمها لأغراض خاطئة.. المعضلة أن التيار التغريبي غاب حتى في هذا "الانتخاب" الذي لا يمكن أن يزعم أن المصوتين فيه أميون متحجرون، فالمجلة أمريكية والذين يطلعون عليها ليسوا بالتأكيد من الأميين أو من أصحاب الفكر الظلامي المتعصب.. ومشكلة التيار التغريبي أنه غير مستعد لمراجعة مواقعه وأخطائه، وغير مستعد للتخلي عن مكتسباته الظرفية الانتفاعية، ولكنه مع ذلك يصر على تسفيه الأمة ووصفها بكل ما في القاموس من كلمات التحجر والانغلاق، وينسى أن معاناته ومحنته، في الانغلاق على نفسه وصد كل منافذ المراجعة والتثبت من سلامة سيره، معاناة ومحنة لا تدانيها أي محنة، لأنها تصيب أصحابها بداء الفصام النفسي "الشيزوفرنيا"، وتحرمه من القدرة على استخلاص النتائج من الماضي و التخطيط للمستقبل..