عادت ظاهرة الاحتجاجات إلى الشارع، ولا تزال المشاكل الاجتماعية وعلى رأسها السكن والشغل تشكل المحرك الرئيسي للاحتجاجات الاجتماعية التي تحولت إلى وحش حقيقي يخيف الجميع على ضوء التجارب التي عرفتها ولا تزال تعرفها بعض الدول العربية، وإن كانت هذه الموجات الاحتجاجية تتزامن أيضا مع صدور قوانين الإصلاح وارتفاع باروميتر النقاش حول الاستحقاق التشريعي المقبل. عادت موجة الاحتجاجات، بعد مرور سنة عما اصطلح على تسميتها ب »انتفاضة الزيت والسكر«، لتكتسح عدة ولايات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، وظل العنوان واحد وهو الانتفاضة ضد كل أصناف التهميش والعوز الاجتماعي، فاشتعلت شوارع الأغواط بسبب قوائم السكن الذي أضحت تمثل السبب الرئيس للفتن إلى جانب الشغل وفك العزلة، ووصلت شرارة الاحتجاجات إلى ورقلة وإلى سكيكدة ووهران والعاصمة وبومرداس، ولا يمر يوم واحد إلا وسمعنا عن خروج المواطنين في هذه المنطقة أو تلك للتعبير عن تذمرهم من المعاناة المختلفة، فتحول أي حادث إجرامي إلى سبب للخروج إلى الشارع للمطالبة بالأمن، وحتى حوادث المرور كانت حاضرة أيضا، وهو ما يؤكد بأن السواد الأعظم من الناس أصبح يتحين الفرصة لينتفض ويعبر عن معاناته، وحتى وإن ظلت هذه الاحتجاجات حبيسة العناوين الاجتماعية والاقتصادية ولم تصل إلى المطالب السياسية فإن خطرها حقيقي. لقد طرحت تساؤلات كثيرة عن أسباب هذه الاحتجاجات المتسلسلة، وإذا كانت ما سمي ب »انتفاضة السكر والزيت« كانت بسبب الارتفاع الجنوني والمفاجئ لبعض المواد الاستهلاكية الرئيسية كالسكر والزيت، فإن احتجاجات اليوم تأتي في ظل وضع مغاير تماما، بل تتزامن مع إنفاق غير مسبوق لجأت إليه الدولة لشراء السلم الاجتماعي، ما جعل البعض يحبذ الحديث عن أطروحة المؤامرة، وأن بعض الأطراف الداخلية والخارجية تدفع في اتجاه إلحاق الجزائر بركب دول »الربيع العربي«. وزير الخارجية مراد مدلسي اعتبر أن الاحتجاجات التي اجتاحت في الفترة الأخيرة الكثير من مناطق البلاد بمثابة تعبير المجتمع عن مطالبه إلا أنها، حسب نظره، لا ترقى لأن تقود البلاد نحو موجة الربيع العربي، وركز مسؤول الدبلوماسية الجزائرية خلال الندوة الصحفية التي نشطها بمقر الأممالمتحدة بنيويورك على المكاسب التي حققتها الجزائر منذ إقرار التعددية في أكتوبر 88 من خلال سياسية التفتح التي غابت في حال الأنظمة العربية التي اجتاحتها »ثورة الشارع العربي«، وفيما تباهى الوزير بحرية الصحافة في الجزائر، تحدث من جهة أخرى عن التجربة السياسية الجزائرية المتميزة فيما يتعلق بإدماج التيارات الإسلامية في العملية السياسية ودخول جزء من هذه العائلة السياسية في تحالفات سواء على مستوى الوطني أو المحلي، مؤكدا بأن ما ترفضه الجزائر هو العنف، وهي إشارة واضحة إلى الإصرار على رفض عودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة إلى النشاط السياسي لتفادي تكرار المأساة التي عاشتها البلاد خلال العشريتين الأخيرتين. ويبدو أن عزاء الجميع هو في حزمة الإصلاحات السياسية وفي نزاهة التشريعيات المقبلة، فهي الكفيلة وحدها لتجنيب البلاد كل المهالك التي تترصدها، ولقد أصدر رئيس الجمهورية قوانين الإصلاح الخمسة بعد المصادقة عليها من قبل البرلمان بغرفتيه والمجلس الدستوري، ويتعلق الأمر بالقوانين العضوية المتضمنة نظام الانتخابات وحالات التنافي مع العهدة البرلمانية وتوسيع تمثيل المرأة في المجالس المنتخبة وقانون الإعلام وقانون الأحزاب السياسية والقانون المتعلق بالجمعيات. لقد رحبت الولاياتالمتحدةالأمريكية على لسان كاتبة الدولة للشؤون الخارجية هيلاري كلينتون بالإصلاحات السياسية التي باشرتها الجزائر من أجل دعم الصرح الديمقراطي، وشكرت كلينتون الجزائر على المساعدات التي قدمتها لكل من تونس وليبيا، فضلا عن التعاون الحاصل بين البلدين خصوصا في المجال الأمني ومكافحة الإرهاب، مع العلم أن مسؤولة الدبلوماسية الأمريكية منتظرة في فيفري القادم في الجزائر في إطار جولة مغاربية يرتقب أن تحرك الكثير من الملفات المشتركة السياسية والاقتصادية وخصوصا الأمنية. الترحيب الأمريكي بالإصلاحات السياسية في الجزائر لا يجب أن يجعل الجميع يطمئن بأن القوى الغربية بقيادة أمريكا ستتخلى عن فكرة جر الجزائر إلى مستنقع »الثورات العربية«، فالحل الوحيد لتفادي السقوط في فخ المخطط الغربي يكمن في إقناع السلطة كل الشركاء السياسيين بأن المستقبل سيكون أفضل وأن عملية الإصلاح ليست خدعة هدفها ربح الوقت وإنما خارطة طريق جدية هدفها نقل البلاد إلى مرحلة تعم فيها الديمقراطية وتتوسع خلالها الحريات. هذا المستقبل المشرق يتوقف على سلوكات السلطة، ويتوقف أيضا على تصرفات المعارضة، فالموقف الذي تبناه مثلا التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، الأرسيدي، من خلال المطالبة بتأجيل موعد التشريعيات المقررة في ماي إلى تاريخ لاحق، بدعوى عدم وجود ضمانات كافية لتنظيم اقتراع شفاف بعيدا عن شبح التزوير، هو تشكيك غير مبرر ولا يستند إلى أي قاعدة حقيقية، خاصة وأن السلطة استجابت لأهم مطالب حزب سعيد سعدي من خلال دعوة المراقبين الدوليين، للمشاركة في مراقبة سير التشريعيات المقبلة، فضلا عن إجراءات أخرى أعلن عنها الرئيس تتعلق بتكليف القضاة بعملية الإشراف على العملية الانتخابية وإلزام الإدارة بالحياد التام...الخ لقد طرحت قيادات وشخصيات إسلامية مختلفة مبادرة في اتجاه قيام تحالف إسلامي موحد خلال الاستحقاقات المقبلة، ويوجد من بين الموقعين الذين بلغ عددهم 168 شخصية، قيادات مؤسسة لحركة مجتمع السلم، حماس سابقا، وأخرى في تيار السلفية والجزأرة، وإطارات سابقة وحالية في كل من النهضة وحركة الإصلاح، فضلا عن نشطاء إسلاميين ودعاة، ومثل هذا التوجه بين أحزاب التيار الإسلامي تفرض على خصومهم في الساحة السياسية عمل مماثل من خلال بناء تحالفات تجمع الوطنيين وأخرى تضم ما يسمى بالقطب الديمقراطي. لكن الواقع يبين أن التحالف مستبعد في جميع العائلات السياسية، والسبب هو النزعة الشخصية خاصة بالنسبة للتيار الإسلامي، والتباعد في الثقل الاجتماعي وميزان المشروعية الشعبية فيما يتعلق بالتيار الوطني، وأما التيار الديمقراطي فهو ممزق بفعل خصومات قديمة واختلافات فكرية كبيرة، خاصة بين الأفافاس والأرسيدي. لقد استبعد وزير الداخلية فرضية وصول الإسلاميين إلى الحكم خلال الاستحقاق التشريعي المقبل، وقال ولد قابلية، في برنامج للإذاعة الوطنية »لا يمكن لأحد أن يضع نفسه في مكان الشعب للقول في أي اتجاه سيذهب خياره، تحالف بين أحزاب إسلامية أم لا، الناخب الجزائري يعرف محيطه، المقارنة مع الدول الأخرى يمكن إسقاطها«، وأضاف »الجزائر لديها خصوصياتها والقيم المجتمعية فيها التي لا تشبه بالضرورة ما هو موجود في أماكن أخرى حيث الانتخابات عاقبت السياسيين بدلا من القيم، إذن علينا أن نتحفظ وننتظر ماذا سيحدث«، وأوضح ولد قابلية أن الأحزاب الإسلامية الجزائرية »لديها أفكار وطموحات مختلفة وليست مذهبية، لكن طموحات شخصية«. وتبنى وزير الخارجية مراد مدلسي نفس الطرح، المبني في الواقع على أمرين أساسيين، الأول يتعلق التجربة المريرة التي مر بها الشعب الجزائري خلال عشرية الإرهاب، ويتعلق الثاني بالتجربة مع التيار الإسلامي، فالجزائر وخلافا للعديد من الدول العربية التي اجتاحتها »الثورات« فتحت الباب أمام المشاركة السياسية للتيارات الإسلامية التي تواجدت على مر السنوات الماضية في المجالس المحلية والوطنية وفي الحكومة أيضا.