ظل الإسلام منذ ظهوره قوة الدفع الأكبر نحو التحرّر في كل البلدان التي دخلت رحابه حتى تلك التي بها أقليات من ديانات مختلفة، وما زال يمثِّل أهم ملامح الهوية الحضارية لمجتمعات تلك البلدان، وهو ما يُفسِّر ارتباط معظم الثورات الشعبية العربية- بوجه خاص- بالإسلام دون غيره من المعتقدات والمفاهيم الأخرى، فكان "الإسلام السياسي" في حينه يقظة ثورية كبرى التفت حولها جماهير غفيرة من أفراد الشعب، بل استقطبت حتى أولئك الذين لا تجمعهم بالمسلمين غير رابطة الحرية والعدالة ورفض الاحتلال، كون تلك اليقظة قامت- بالنسبة لهؤلاء- على أساس العمل من أجل الإطاحة بالظاهرة "الاستعمارية" التي استعبدت الأمم لعشرات السنين ونهبت خيراتها وأعاقتها عن المشاركة في ترقية الحضارة الإنسانية بعدما سجنتها في تخلُّف يمقته الإسلام ويحاربه . لم تستطع الدولة الوطنية "المسلمة" أن تحافظ على وحدة الهدف، وإعادة تجميع قُوَى الأمة في "الجهاد الأكبر"، بعد التّخلص من قيود الكولونيالية، حينما تسرَّب نوع من الإجحاف في حق أحد مكوِّنات الهويّة الحضارية فعطَّلته، وقد جعله البعض سببا أساسيا في التخلف الحاصل، بل وعِلَّة كل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، مما استوجب الثورة من أجله، وهو ما أفرز فئة هربت إلى ما تعتقد أنه النجاة، وذلك بتطبيق حرْفيٍّ للشريعة الإسلامية، كما جاءت قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، دون الالتفات إلى تراكم ميراث المسلمين الإيجابي خلال كل هذه الحقبة، واستثمر السعاة الجدد إلى السلطة في عثرات الدولة أو أخطائها، في تقوية صف الدعاة السياسيين بعباءات دينية، فأغروا فئات كثيرة تأمل في الانتقال من ديمقراطية الواجهة المملة، إلى ديمقراطية الاختيار الحر والشفاف والنزيه، وإن كانت تلك الفئات مزيجا من الناقمين على الوضع الاجتماعي العام، ومن مصطادي الفرص من الانتهازيين والوصوليين، ومن السّذّج المصدِّقين بدعوة مَن يرفعون شعار العودة إلى المنابع الصافية للدِّين، في وقت تحلّلت فيه الأيديولوجيات القائمة ولم يعد هناك ملجأ للحيارى غير الدِّين، واحتدم صراع المصطلحات السياسية القادمة من قاموس الغرب السياسي، وانقسم المسلمون على أنفسهم، إلى دعاة للسياسة بواسطة الدين، ومروِّجين لها باسم الديمقراطية، واللاهثين نحوها من خلال التنابز بالمصطلحات، إلى درجة ضبَّبت الرأي العام ! ركب الغرب موجة الاحتقان الشعبي من سياسة القصور "المسلمة" وهو الذي ساعد على إدامتها وحمايتها وابتزازها عشريات من الزمن، واستطاع أن يمتطي قطار الانتفاضات الشعبية التي فاجأته، وحاول توجيهه إلى الوجهة التي يظل فيها سيِّدا مهيمنا ومستفيدا، فلم يعد"الإسلاميون" يُشكِّلون لديه خطرا على الأمن العالمي، كما كان يقول عنهم ويفعل في الشعوب المسلمة بسببهم ما فعل، واندس وراء الموجة الجديدة لتزكيّتهم في الوصول إلى السلطة، على أنقاض الهاوية بهم كراسيهم، وأصبح يُروِّج لهم في أكثر من بلد، فكأن حُبا جارفا نما بينه وبينهم فجأة، وراح يستبق ما قد يحدث، بل يُهدِّد بالوافدين الجدد، عن طريق زرع الفوضى وتفكيك ما بقي متماسكا من المجتمعات وإعادة بنائها، تحقيقا لإستراتيجية البيت الأبيض الأمريكي الجديدة المتمثّلة في الفوضى الخلاقة، وهو ما فتح شهية الطامعين في استلام السلطة، ممَّن أَطلق عليهم مناوئوهم بالإسلاميين أو الإسلامويين . إذا كان الغرب الرسمي قد احتضن "الإسلاميين" في هذه المرحلة المفصلية، فإن مرد ذلك- في اعتقادي- يعود إلى اقتناعه أنهم أصبحوا ممراته الجديدة الآمنة، لاستعادة ما افتكته الشعوب المسلمة بحد السلاح وقوة الإيمان، لأن "زعماء" تلك المعارضة هم من نفس البيئة السياسية التي أنبتت "زعماء" السلطة، وهم إذ يتغذّون من نقدها فقط، فإن برامجهم تصب في تعداد مثالبها وكشف عوراتها، دون تقديم البدائل العملية الواعدة، سواء على المستوى القطري أو على المستوى القومي، ولم يبلغوا درجة القدوة في السياسة كما في الدِّين، بعدما تلوّثوا بأوساخ السياسة، وقد يكون مسعاهم المحموم في بلوغ كراسي الحكم، لا يعدو أن يكون بحثا عن ضرع يمصّونه، بعدما رأوا أن مقدّرات الأمة أصبحت مجرّد بقرة لجياع مرضى بالنهم، وإلا لماذا لم ينتفضوا- كما لم تنتفض معهم الدول الداعية للمد الجديد والتي اجتمعت مؤخّرا في تونس(22/02/2012)- من أجل نصرة الشعب الفلسطيني الذي اغتصبت إسرائيل أرضه بتواطؤ دولي مفضوح، وانتهكت حقوقه على مرأى من العالم كله، وضُرِب بكل أنواع أسلحة الدمار الشامل، وما زال يُهان في كل جمعة على أسوار القدس وعند عتبات المسجد الأقصى، دون أن تتحرّك الجزر الخليجية العربية الشمولية المتحمِّسة للديمقراطية، أو غيرها من الدول الآفلة الساقطة، أو الباحثة لها عن مكان تحت الشمس، بينما يتهافتون إلى إشعال الحرب بين السوريين، حتى وإن كان النظام القائم أحد حمّالي وقود تلك الحرب القذرة . عندما نضبت مياه الاجتهاد، وجفّت ساحة الفكر والمعرفة لدى المسلمين، ظهر خلق كثير من العازفين على أوتارهم الروحية والعاطفية، فاهتزت الشعوب على وقْع رقصات كانت- للأسف- للفتنة والاقتتال وكل أنواع الانتحار، أما الإسلام فهو ممارسة تُجدِّد الحياة وتُعيد التبشير فيها بالقيّم الإنسانية النبيلة، التي تحفظ لكل جيل توازنه واستقراه، وتعطيه الفرصة لتطوير نفسه، وليس ملعبا يمارس فيه مجتمع المتسلِّقين- في عالم السياسة- شذوذهم في اختطاف حكم الأمة، بل هو القلعة التي تحتمي بها في كل حين وعندما تداهمها المخاطر أو تدلهمّ عليها الحياة، ويُجدِّده العلماء والمفكِّرون والمجتهدون والفلاسفة المتفقِّهون في الدين، أما السياسيون فعلاقتهم به تبدأ من حيث رغبتهم الصادقة، في تنمية المجتمع المسلم أصلا، ونقله من حالة التخلف إلى مرحلة التقدّم، وهذا ما يجب أن يعرفه هؤلاء السياسيون، لأن أي فشل يصيبهم قد يُحدث خدوشا في هذه العقيدة الجامعة المُوحِّدة، وعلى الأحزاب القائمة أو حتى تلك التي وُلِدت بعمليات قيصرية، أن تُغيِّر دمها الفاسد، وتستبدل أدواتها التي انتهت صلاحيتها، قبل الدخول إلى الاستحقاقات القادمة، وتعيد حساباتها خارج "مأمن" التزوير الذي اعترف به كل المتحركين على الساحة السياسية، سواء تلك الفائزة منها فيما مضى أو التي أخفقت حسب النتائج المعلَنة، وإلا ستكون أمام انتقام شعبي يُعزِّزه التربص الأجنبي، الهادف إلى الإطاحة بمعالم الدولة الوطنية المسلمة، وربما تحدث انفجارات هي تنتظر فقط مَن يضغط على زرٍّ يتحكّم فيه عن بُعد، كي تظل المجتمعات "الإسلامية" موغلة في التخلف، وتستمر المصالح الحيوية الدائمة مضمونة لدعاة الحروب الغربيين الذين أُخرِجوا فعادوا بتقاعسنا وانحباس إرادة الحياة فالحرة في مسئولينا، وساعتها سيكون الإسلاميون والإسلامويون ومن يظاهرهم ومن يعيش بينهم جميعا، مسئولين أمام التاريخ ليس فقط عما يحدث للمجتمع، ولكن عن الإساءة الكبرى التي سيُلحقونها كلهم بالإسلام كدين وحضارة...