من المؤكد أن أي مجتمع ينقسم إلى سلطة ومعارضة منذ النشأة الأولى للمجتمعات الإنسانية، وإلى أغلبية وأقلية، ويتطور هذا الوضع مع تطور الأنظمة التي تحكم المجتمعات منذ الأزل إلى يوم الناس هذا. وكثير ما ينبني النظام السياسي على إثر انتهاء الحروب سواء كانت دفاعية تحررية أو أهلية، وتحدد طبيعته المستحدثة أو المتجددة من خلال نوايا الجهة الغالبة، وقد لا يختلف اثنان في أن أفراد المجتمع المدني هم وقود تلك الحروب أو الثورات وضحاياها، وإن الطبقة المستنيرة فيه والمسيرة له، هي التي تقوم بدور الشموع التي تفنى من أجل إضاءة دروب الآخرين وإنارة مسالكهم. وإن المجتمع المدني بشقيه المهيكل وغير المهيكل المساهم في الحياة التعبيرية وغير المساهم هو المعني بأي تغيير وأن الذي يهيكل منه يسهل التعامل معه، ويمكن حصر خانات آرائه، ومربعات وجهات نظره ومجالات اهتماماته. أما ذلك الشق الصامت فإنه من الصعوبة بمكان التعامل معه لجهلنا ما يدور في خلده، هل هو شخصي أم عام، فردي أم عمومي، إن كان المسكوت عنه ذاتيا فالأمر بسيط وهين، أما إذا كان الغياب عن المشاركة في الحياة السياسية بسبب كبت في الأنفس يحملها ضمير جمعي، فإن المسألة خطيرة وتدعو إلى الانتباه وأخذ جانب الحذر والحيطة، والعمل على رصد كل ما من شأنه أن يضمن السلم الاجتماعي الذي بفضله يستتب الأمن وتستقر الأوضاع، ويسود الاطمئنان، ويتوفر العيش الكريم، ويعم الرخاء، وتستمر استقامة العيدان حتى لا يكون هناك ظلا أعوجا، يتم هذا لا شك عن طريق توظيف المجتمع المدني المهيكل. إن المجتمع المدني الذي أعيد إحياء دوره من جديد بسبب التغيرات التي تحدث على الساحة الدولية، وانتقل النقاش بسرعة من بين الحكومات والبرلمانات إلى منصة المجتمع المدني وصار يتجسد على أرض الواقع بتشجيع من السلطات ذاتها، تهيء له الجو الملائم والمناخ المناسب ليتحقق مفعوله على الأرض كبديل تتحكم في إدارته إلى حد بعيد. إذن فالمجتمع المدني بمختلف تشكيلاته هو الذي تقع على عاتقه اليوم المسؤولية الكبرى في تأطير المجتمع وتثقيفه وتعبئته نحو القضايا الوطنية الجامعة النافعة الواعدة. وإن الدافع مفاده الاقتناع أنه لابد من وجود آليات فاعلة لدى الرأي العام، وما هي بالطبع سوى تلك التي تسري بين أحشائه، وتتحكم في مفاصله بصفة طبيعية وأبدية غير مبطنة ولا مصنعة ولا مولّدة توليدا قيصريا ولا مؤقتة، وما يأتي ذلك الأمن قبل المجتمع المدني المتفق على صياغته أو بعثه. مبعث ذلك بالطبع الضرورة التي صارت ملحة في ايجاد حلول للتحديات الناجمة بالخصوص عن التطورات السكانية والاقتصادية والسياسية مما يوجب الدعوة القوية إلى مشاركة القوى الشعبية في شتى مجالات الحياة. إذ من البديهي أن الأمة التي تستطيع أن تهيكل مجتمعا مدنيا ناجحا، تصبح لديها أكبر قدرة على مواجهة مشاكلها بطرح وبلورة التصورات البديلة لأولويات الحياة، ذلك أن المجتمع المدني ساحة خصبة للتفاعلات الاجتماعية العامة والأداة التي تتجاوز بنجاح المصالح الذاتية والمآرب الشخصية من أجل ترسيخ مفهوم الصالح العام لدى الجميع بقناعة العمل الحر الطوعي خدمة لمصالح المجتمع ككل. هكذا فالمجتمع المدني هو العين الثاقبة اليقظة المتحسسة المعبأة المعبرة عمليا وفعليا عن أحاسيس واهتمامات وطموحات الشعب وإرهاصات شبابه، كونه يحتل المقام الأول والدرجة المثلى في التكفل بهموم أبناء الأمة، وهو الذي له القدرة على توحيد وتوجيه مختلف فيئات الشعب وتركيبته الفسيفسائية، وشرائحه المتنوعة وتقاطع خيوط غزله السياسي، الاجتماعي، الثقافي، النقابي، الديني، الرياضي، وحتى العشائري. تراني لم أتكلم عن الأحزاب السياسية ودورها فيما ذكرت، لأن الأحزاب في الأصل وليدة المجتمع المدني لا مولّدة له، وما الطبقة السياسية التي نراها اليوم في حصص حوار الساعة وغيرها من المنابر والمنصات، الصبي منها والمتصابي ماهي إلاّ نتاج لمجتمع مدني، الذي لا أدري هل العيب فيه؟ أم في انعدام ملامح طبقة سياسية واعدة؟ التي كان الأجدر بها أن لا تغفل هذه الأيام وعلى الأقل قبل الخوض في غمار الحملة الانتخابية عما يجري في جنوب البلاد، وما ينجر عنه من مخاطر وعن سواه من الحزام الناسف الحدودي المتشعب، أم أنها أحزاب جاءت فقط تتحين الفرصة للانقضاض على الفريسة، ممنية النفس بما حدث حولنا، وكأن هناك فريسة ، ومتى كانت الجزائر فريسة.