تكاد تكون الجزائر الدولة الوحيدة من بين عامة الدول العربية التي لا تملك مرجعا دينيا كبيرا أو هيئة فتوى تبتّ في مختلف المسائل العالقة وتبدي رأيها فيما يستجد من أمور الناس والسياسة والحكم على غرار الأزهر في مصر والزيتونة في تونس ودار الإفتاء في كل من سوريا ولبنان وهيئة كبار العلماء في الأردن. تحقيق: عثمان لحياني وظلت وزارة الشؤون الدينية وحدها تتكفل بالمهمة عبر مجلسها العلمي ثم لاحقا المجلس الإسلامي الأعلى الذي ترأسه كل من الشيخ أحمد حماني ثم الشيخ عبد المجيد مزيان رحمهما الله. وفي عهد رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس، طرحت وزارة الشؤون الدينية مشروع إنشاء دار للإفتاء ومفتي للجمهورية على الطريقة المصرية. خطوة في الاتجاه الصحيح كانت تهدف الى سحب التلاعب بالفتوى والمسائل الشرعية من يد أكثر من طرف لكنها كانت في نفس الوقت خطوة في الاتجاه الآخر.. إنشاء هيئة إفتاء قد تحتاج اليها السلطة في الكثير من محطاتها السياسية والاقتصادية مثلما يجري في العديد من الدول. عشرية الفتوى الساخنة... وثلاث سنوات من الجدل كانت أكثر المراحل الحساسة التي برزت فيها حاجة الدولة الى مفتي يقرر مطابقة أي مشروع تطرحه السلطة مع منظومة القيم المستمدة من الشريعة الاسلامية والتقاليد، وكانت فترة الارهاب الجنوني الذي استغل الفتوى في صالح طروحاته المتطرفة كالإفتاء بجواز قتل رجال الشرطة والأمن وأعوان الدولة ثم الإفتاء بجواز القتل الجماعي، كما دأبت دائما الجماعة الإسلامية المسلحة (الجيا) من خلال تكفير قادة الجزائر دون استثناء وكل من يعمل معهم وحتى من لا يخالفهم. وكذا الفتوى التي أصدرها أبو قتادة المصري لصالح الجماعة المسلحة في الجزائر والمتعلقة ب»جواز قتل ذرية ونساء المرتدين من أجل تخفيف وطأتهم على النساء والمساجين والاخوان واعتباره عملا شرعيا لا شبهة فيه«!!. وهي الفتوى التي استندت إليها الجماعة الإسلامية المسلحة في قتل رجال الشرطة والجيش وأبنائهم ونسائهم، إضافة الى فتوى إجازة السبي واستحلال الأموال المغتصبة، وكان يمكن للفتوى السليمة وللمرجعية الدينية القوية لو وجدت ان تلعب دورها كما كان يمكن للفتوى أن تطفئ نار الفتنة وتعيد المغرر بهم الى جادة الطريق. ولاحقا ثارت في وجه السلطة عقبة لم تتخلص منها بسهولة، كانت مخاضا حقيقيا وامتحانا لإمكانية تجاوز »عقدة الدين« إذا صح هذا التعبير في طرح المشاريع السياسية، عندما تعلق الأمر بتعديل قانون الأسرة والذي تضمّن بعض التعديلات أهمها التصريح للمرأة بتزويج نفسها بدون وليّ، قبل أن تتراجع السلطة عن هذه النقطة بعد رفض أغلب المرجعيات الدينية التقليدية لها. وقبل أيام فقط ثارت في أدرار حرب الفتوى بين أحد علماء المنطقة والابن الأكبر للعالم الجليل الشيخ بلكبير بشأن استحلال القروض البنكية عندما أفتى الشيخ محمد علالي بن أحمد المعروف بمولاي الحاج شيخ الزاوية الفقهية والمدرسة الدينية بتسافوت، بجواز الاستفادة من القروض البنكية بفوائد قصد استغلالها في أنشطة تجارية واقتصادية أو خدماتية شرط المساهمة ب30٪ والحصول على 70٪ من البنوك قبل أن يردّ عليه الإمام محمد بن عابد مفتي إذاعة أدرار الجهوية بتحريم القروض البنكية بفائدة وكذا تحريم الأرباح التي تدفعها البنوك لأصحاب الأموال المودعة في البنوك وصناديق التوفير والاحتياط. ثلاثة مشاهد تختصر الى أي حد تكون الجزائر بحاجة الى مفتي للجمهورية أو دار للفتوى تتكفل باستصدار الفتاوى ووضع حد للفتاوى الخاطئة، أو التصورات الخاطئة في القرارات والمشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة وأن المكلف بالإعلام في وزارة الشؤون الدينية عبد الله طمين كان قد كشف في تصريحات ل»الشروق اليومي« ان الوزارة تتلقى أسبوعيا ما لا يقل عن 300 طلب فتوى من طرف مؤسسات الدولة والهيئات الرسمية. وحتى الآن مرت أكثر من ثلاث سنوات على طرح مشروع إنشاء دار للإفتاء في الجزائر من طرف وزارة الشؤون الدينية بهدف إقامة مرجعية في مجال الفتوى لكن المشروع ظل معطلا وحبيس الأدراج أو »قيد الدراسة« مثلما تقول الوزارة، حيث أبقى رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس الملف جانبا بالنظر إلى الظروف التي اختتم بها عهدته في رئاسة الحكومة، قبل أن يوضع الملف بين يدي رئيس الحكومة المستقيل أحمد أويحيى الذي أبقى هو الآخر على النص المتضمن إنشاء دار الإفتاء قيد الدراسة على مستوى اللجنة الوزارية المشتركة التي تم تنصيبها منذ حوالي ثلاث سنوات بعد ان تمت التوصية بقراءة ثانية عقب التحفظات التي تم التعبير عنها بخصوص المشروع والمتعلقة باحتمال تداخل الصلاحيات سيما مع المجلس الاسلامي الأعلى. غلام الله... سننشئ دارا للإفتاء مثلما أعدنا الآذان إلى التلفزيون بعد أن انتهى وزير الشؤون الدينية من اكتساب تأييد الزوايا ودعمها في المحطات الكبرى، وإبعاد الفعاليات الاسلامية ذات الارتباط السياسي من ساحة التأثير الشعبي وغلق المساجد في وجهها، اتجه غلام الله الى طرح مشروع مفتي الجمهورية ودار الافتاء لتوحيد الرؤية الشرعية للأمور. وزير الشؤون الدينية، المنخرط في حزب التجمع الوطني الديمقراطي »الأرندي«، دافع كثيرا عن مشروعه وأبدى إصرارا على تنفيذه وقال »سننشئ دار الإفتاء مثلما أعدنا الآذان الى التلفزيون« خلال افتتاحه لملتقى قراءة صحيح الإمام البخاري، على الرغم من أن الجميع يعلم انه لا علاقة للوزير بعودة الآذان، وأن الرئيس بوتفليقة هو وحده من قرر ذلك. وعلى الرغم من أن رئيس الحكومة السابق أحمد أويحي كان يمكنه أن يدفع بمشروع وزيره غلام الله، غير أن أويحي فضل أن يؤجل الملف ويتماطل في مناقشته أو إحالته على رئيس الجمهورية للبتّ فيه، لكن وزير الشؤون الدينية غلام الله رفض، في تصريح صحفي خلال إشرافه على ملتقى حول قراءة صحيح البخاري جرى تنظيمه الاسابيع القليلة الماضية، الحديث عن تماطل السلطات العليا ممثلة في رئيس الجمهورية في احتضان المشروع بجدية أو التعاطي معه بالإيجايية المطلوبة. وأكد أنه يتوقع استحداث دار الإفتاء بالتوازي مع إنشاء مسجد الجزائر الأعظم بالمحمدية، معترفا بوجود تحفظات جدية من طرف المجلس الإسلامي الأعلى على المشروع الذي يفضل أن لا تكون دار الافتاء إدارة قائمة بذاتها بل هيئة مرتبطة إداريا بوزارة الشؤون الدينية وهيئاتها المركزية والمحلية وخاصة المجالس العلمية وخلايا الإفتاء لتفادي التداخل في الصلاحيات مع المجلس، الذي برر رئيسه الشيخ بوعمران تحفّظه على قيام هيئة دينية موازية من شأنها التضييق من هامش سلطاته، وقد تدفع في المستقبل برئيس الجمهورية إلى الاستغناء عن »المجلس الإسلامي الأعلى« بالمرة، كما يرى المجلس الإسلامي أن الأوساط الدينية الرسمية بحاجة لشخص واحد يكون محل إجماع تعود إليه الهيئات والمؤسسات في المسائل الشرعية. وفي هذا الصدد يقول المستشار الاعلامي لوزير الشؤون الدينية عبد الله طمين ل»الشروق اليومي«، »إن مشروع مفتي الجمهورية ودار الافتاء تمت صياغة مرسوم إنشائهما في شهر ديسمبر 2002، وبعد الصياغة تم عرضه على مجلس الحكومة وصادق عليه هذا الأخير مع بعض التحفظ«، حيث اعتقد البعض أن دار الافتاء جاءت لتحل محل المجلس الإسلامي الأعلى، فيما أيّد عدد من أعضاء الحكومة آنذاك المشروع على اعتبار أن إنشاء دار للإفتاء ومفتي الجمهورية سيسهم في وقف فوضى الفتاوى مع التحفظ على تحويله الى مؤسسة إدارية أو انشاء هيئات إفتاء فرعية له وأمانة عامة ومجلس علمي. جملة التحفظات هذه دفعت رئيس الحكومة السابق أحمد أويحي الى اتخاذ قرار إعادة النظر في مرسوم إنشاء دار الإفتاء وإجراء قراءة أخرى له من طرف لجنة وزارية مختصة لتمحيصه وتجنب تداخل صلاحياتها مع المجلس الإسلامي الأعلى أو وزارة الشؤون الدينية. المجلس الإسلامي الأعلى: ما دخل الوزارة في الفتوى والإفتاء؟ حملنا الملف إلى الشيخ بوعمران، رئيس المجلس الاسلامي الأعلى، الذي التقينا به في جلسة خاصة ب»الشروق اليومي« وظهر أنه كان يعتقد أننا نودّ سؤاله بشأن الفتوى السعودية المثيرة للجدل خلال حرب لبنان، لكنه مع ذلك كان واضحا في موقفه حيال مشروع مفتي الجمهورية وقال »إن الوزارة جهاز سياسي لا يجب ان يتدخل في الإفتاء والفتوى، ثم إن الوزير مرتبط بحكومة ونظام وحالما ترحل الحكومة يرحل الوزير معها، وبالتالي فإن هذا الوضع يفرض الفصل بين مفتي الجمهورية أو دار الإفتاء وبين الوزارة والحكومة«. وسجل بوعمران أنه قرأ تصريحا لوزير الشؤون الدينية غلام الله يؤكد فيه »أن مشروع مفتي الجمهورية مجمّد حتى الآن على مستوى رئاسة الحكومة«، موضحا (بوعمران) أنه لم يعترض على استحداث مفتي الجمهورية، لكنه طالب بتوضيحات حول مشروعه وتحفظ على ثلاث نقاط أساسية تتعلق بالصلاحيات المخولة له والتي لا يجب أن تتداخل مع صلاحيات الوزارة والمديريات الولائية للشؤون الدينية التي تضم مجلسا علميا مكلفا بالفتوى والنظر في القضايا الشرعية التي يعرضها المواطنون في مختلف الولايات والمناطق وبين المجلس الاسلامي الأعلى المكلف بالاستشارة في المجالات الدينية والشرعية. فالمشروع حسب الشيخ بوعمران وفقا للمقترح الذي طرحته الوزارة غامض بشأن بعض النقاط المتعلقة بصلاحيات المفتي التي لم يحددها المشروع، وهو ما قد ينجم عنه تداخل في صلاحياته هو وتلك الخاصة بالمجلس الإسلامي الأعلى ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف. إضافة الى مسألة الوصاية التي يتبعها منصب مفتي الجمهورية بين ان تكون رئاسة الجمهورية أم وزارة الشؤون الدينية أم يكون هيئة مستقلة. وأوضح بوعمران كذلك ان المجلس يوافق على المشروع من حيث المبدأ لكنه يفضل ان يتم تقييد المشروع بجملة من الضوابط، منها أن الشخص الذي يرشَّح لتولي المنصب المذكور يجب أن تتوفر فيه شروط العلم في الحديث والفقه والتفسير والسيرة النبوية، اضافة الى تمكّنه من اللغات الأجنبية وسعة الاطلاع في المجالات العلمية والاقتصادية. وأشار بوعمران أن وزارة الشؤون الدينية ليست سوى هيئة إدارية تهتم بالمساجد ورواتب الأئمة والموظفين ولا علاقة لها بالفتوى »الوزارة تقول إن 330 طلب فتوى يصلها أسبوعيا... هذا ليس عمل الوزارة هناك مجالس علمية موجودة وفي كل الولايات لدى مديريات الشؤون الدينية تتكون من علماء وأئمة تتكفل بالرد على فتاوى الناس ثم ان ما تقول الوزارة انه طلبات فتوى ليس إلا أسئلة عادية عن مسائل شرعية الأجوبة موجودة عنها في كل الكتب وكان يمكن ان تعمد الوزارة الى جمع الفتاوى حول مختلف المسائل والقضايا المطروحة بصورة يومية في كتب ومجاميع علمية وتأسيس مكتبات توضع في المساجد تمكن الناس من تعلَّم دينهم والأئمة من الرد على أسئلة الناس«. ويوضح بوعمران هذا الأمر أكثر بالقول إن »وزارة الشؤون الدينية أجرت دراسة شملت عيّنة من 2430 طلب فتوى تم تقديمها في غضون أسبوع في الولايات ال48 أظهرت ان 220 طلب فتوى يتعلق بالأزواج الذين يبحثون عن نصائح دينية و220 تتعلق بموضوع الصوم و150 تتعلق بالفوائد الربوية و110 بالصلاة«. سألت الشيخ بوعمران عما اذا كان للموضوع خلفيات سياسية تقف وراء الدفع به الى ساحة النقاش، والتجاذب الحاصل بين الوزارة والمجلس الإسلامي الأعلى وأطراف أخرى تتحرك تحت الطاولة فرد بالقول، »هناك من يريد خلع لباس الفتوى عن المجلس الإسلامي الأعلى ويلبسها بمفتي الجمهورية«، ما يعني تحويل جملة من الصلاحيات المخولة للمجلس الى هيئة الافتتاء، مدافعا على الهيئة التي يسيرها بالقول، إن المجلس الإسلامي الأعلى مكلف بالأمور الاجتهادية بالإضافة إلى تنظيم الملتقيات ذات الطابع الدولي وتقديم الاستشارة لرئيس الجمهورية وهو بمثابة مستشار ديني للجمهورية. من يقف وراء تعطيل مشروع مفتي الجمهورية..؟ ربما تقف الحسابات السياسية وراء تعطيل مشروع مفتي الجمهورية، أو تكون حسابات السلطة لم تنضج بعد بشأن فكرة مفتي الجمهورية، وعلى الأرجح فإن المشروع لم يستسغ بعد لدى دوائر القرار أو التي لها علاقة بصناعة القرار في الجزائر، خاصة إذا علمنا أن إعادة الآذان إلى التلفزيون تطلبت 12 سنة، من عام 1994 الى غاية 2006 من الانتظار والدعوات العديدة من قبل الكثير من القوى والأطراف لإعادته، من طرف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي لم يتحدث حتى الآن مطلقا حول موضوع مفتي الجمهورية، مما يعني أنه غير مستعجل بشأن مشروع المفتي ودار الإفتاء، بالنظر إلى انشغاله بمشروع تعديل الدستور وملفات سياسية تبدو له أكثر أهمية، إضافة الى أن التباين الواضح في مواقف الفعاليات السياسية الشريكة في الحكومة، ف»حمس« تتخوف من أن يتحول مفتي الجمهورية الى أداة تضغط بها السلطة على القوى الإسلامية وتستعطف بها الشارع الجزائري المعروف بولائه لكل ما هو ديني. وتقول مصادر مسؤولة بوزارة الشؤون الدينية إن رئيس الحكومة عبد العزيز بلخادم وعد وزير الشؤون الدينية بالتكفل شخصيا بملف مفتي الجمهورية وسيسهم تواجد بلخادم، المعروف بتوجهه الإسلامي والتزامه الديني، في هذا المنصب في دفع المشروع إلى نهايته وحسمه مع بداية السنة المقبلة على أكثر تقدير، ليصبح للجمهورية الجزائرية مفتي ودار إفتاء للمرة الأولى منذ الاستقلال. وسيكون أمام الرئيس بوتفليقة شخصيات دينية بارزة كالشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء الجزائريين والشيخ عبد الرحمن الجيلالي والشيخ أبو عبد السلام ومحمد مكركب وغيرهم لتبوإ هذا المنصب الحساس. مرسوم إنشاء دار للإفتاء ومفتي الجمهورية يشير نص المرسوم المتضمن إنشاء دار للإفتاء ومفتي الجمهورية والمقترح من طرف وزارة الشؤون الدينية، مفتي الجمهورية يعيّن بمرسوم رئاسي وباتقتراح من وزير الشؤون الدينية والأوقاف تتوفر فيه الكفاءة في الميدان الفقهي والشرعي والعلمي. فيما تتكون دار الإفتاء من مجلس علمي، في شكل هيئة ذات طابع علمي وديني تتكفل باقتراح الفتاوى وجمع الوثائق وتقديم الدراسات والبحوث المتعلقة بالفتوى وتقديم الآراء للمؤسسات والهيئات الرسمية وغير الرسمية التي تطلب الاستشارات الدينية. أما بالنسبة للمجلس العلمي فيتكون حسب المرسوم من 8 الى 10 إلى أعضاء دائمين يتم تعيينهم من بين العلماء وكبار الأئمة في الجزائر والمفكرين الذين لديهم بحوث علمية، ويعيّن هذا المجلس لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد، كما يمكن للمجلس العلمي لدار الافتاء أن يستعين أيضا بخبراء وعلماء.