انتزع الليبيون تعويضات من إيطاليا عن الفترة الاستعمارية التي دامت 32 عاما، والتعويضات تتجاوز من الناحية المعنوية الاعتراف والاعتذار بكثير، غير أن ما أقدمت عليه إيطاليا لم يدفع المسؤولين الفرنسيين حتى إلى مراجعة اللغة التي يتحدثون بها عن استعمار الجزائر وما صاحبه من جرائم، وبالنسبة لباريس قرار إيطاليا ليس سابقة ولن يكون مرجعية وكل علاقة لها خصوصيتها خصوصية العلاقة بين الجزائروفرنسا هي التي تختزل كل هذا الإصرار الفرنسي على رفض طلب الاعتذار أو تجعل الطلب غير جدي وغير واضح، وبكل تأكيد فإن المسألة تتجاوز قضايا التاريخ والنوايا الطيبة تجاه الشعوب المستعمرة، ولا يمكن أن نتعامل بسذاجة مع القرار الذي اتخذته روما بقيادة برلسكوني الذي يعتبر الأقرب إلى فكر موسولوني في العمق رغم كل المساحيق الديمقراطية التي يعتمدها اليمين الأوروبي لدفع شبهات النازية والفاشية والعنصرية. إيطاليا ستدفع خمسة مليارات دولار أمريكي على شكل استثمارات على مدى 25 عاما توجه لتطوير البنية التحتية الليبية، وليس من الواقعية القول أن برلسكوني دفع هذا الثمن لتبييض صورة أسلافه الذين رموا بعمر المختار من الطائرة حيا بل هو استثمار في المستقبل، ورسائل طرابلس بهذا الخصوص كانت واضحة بل إنها كانت تبين عمليا أنها قادرة على المساس بالمصالح الإيطالية، وهي مهمة، في سبيل تحقيق أهدافها السياسية، فقد كان الربط بين الاعتذار والتعويض عن الاستعمار وضمان المصالح الاقتصادية واضحا. تدرك روما أن الحفاظ على مصلحتها الاقتصادية ومن ضمنها ضمان مصدر للتزود بالطاقة أهم بكثير من تمجيد الاستعمار وجرائمه، وفرنسا أيضا مقتنعة بهذا الأمر لكن لا شيء يدعوها إلى تغيير مواقفها ما دامت تحصل على كل ما تطلبه دون أن تجد من يقدم لها لائحة مطالب أو شروط، وقد كان الدعم الكبير الذي ناله مشروع الاتحاد من أجل المتوسط آخر الرسائل التي تشير إلى أنه ليس هناك ما يستدعي تغيير باريس بموقفها من مسألة التاريخ. لقد ثبت بشكل قطعي أن الرهان على حدوث تغير في الموقف الفرنسي بتأثير من الباحثين والأجيال الجديدة التي يفترض فيها التحرر من العقدة الاستعمارية رهان خاسر، وقانون 23 فيفري 2005 يهدف، ضمن أشياء أخرى، إلى إعادة ربط الأجيال الصاعدة بالماضي الاستعماري باعتباره مفخرة لفرنسا وهذا ما تبغي فرنسا تحقيقه من خلال المطالبة بإدراج تمجيد الاستعمار في المقررات المدرسية، وتسير فرنسا اليوم باتجاه تكوين جيل جديد من الباحثين والمؤرخين يكون بإمكانهم إعادة كتابة تاريخ الحقبة الاستعمارية بما يضمن استمرار تلك الصورة المشرقة والمزيفة التي تحرص عليها فرنسا الرسمية اليوم، وهنا قد يكون مفيدا التذكير بأن الباحثين الذين تم اختيارهم للاطلاع على الأرشيف الذي فتح لأول مرة قبل بضعة أعوام انتقتهم الجهات الرسمية بعناية فائقة، وهكذا فإن عامل الوقت لن يكون في صالحنا ولن يكون لائقا بنا أبدا أن ننتظر من الفرنسيين إعادة الاعتبار لشهدائنا ونتقاعس نحن عن القيام بذلك الواجب. طريقة تعامل السلطات الفرنسية مع المطالب الرسمية الجزائرية التي صاغها الرئيس بوتفليقة بخصوص إلغاء قانون 23 فيفري والاعتراف الفرنسي بجرائم الاستعمار توحي بأن باريس مقتنعة تماما بأن كل هذا الجدل لن يؤثر في شيء على مصالحها في الجزائر، هذه الحقيقة تؤكدها الزيارات التي يقوم بها المسؤولون الفرنسيون إلى الجزائر حيث يتم التأكيد على أن فرنسا تمثل الشريك الاقتصادي الأول للجزائر، والسيطرة الفرنسية المتعاظمة على السوق الجزائرية والحضور المكثف للمؤسسات الفرنسية في المشاريع الجزائرية، دون أن يكون هناك تقدم على مستوى الاستثمارات الفرنسية المباشرة في الجزائر، يبين بوضوح أن فرنسا تحصل على ما تريد وفي الوقت الذي تختاره دون أن يكون للجدل السياسي أي أثر على مشاريعها التجارية والاقتصادية مع الجزائر وهذا يضعها وفي موقع مريح ويسمح لها بالتمسك بمواقفها التقليدية إزاء ملف الاستعمار. إن تعامل السلطات الفرنسية مع مطلب الاعتراف بجرائم الاستعمار والاعتذار عنها الذي انتقل من المستوى الشعبي إلى المستوى الرسمي يجبرنا على التأمل في مدى جدية التحرك الجزائري ومدى تأثيره على صانع القرار في باريس، فالموقف الجزائري يتم طرحه في إطار تفاعلات سياسية داخلية مرتبطة بالانتخابات وباستثناء بعض العبارات التي تردت في خطابات الرئيس بوتفليقة لم تتبلور إلى حد الآن أي سياسة رسمية واضحة باتجاه المطالبة بالاعتراف أو الاعتذار. ليست المطالبة بالاعتراف والاعتذار مجرد خطاب سياسي يقوم على تمجيد الماضي والاستدارة إلى الخلف بل هي جزء مهم من بناء النفوذ سياسي وتعزيز القوة الأخلاقية التي كانت الثورة قد وفرتها للجزائر المستقلة، ولا شك أن ليبيا بإصرارها على انتزاع تعويض من إيطاليا كانت تريد أن تحصل على هذا السبق في إطار السعي إلى تكريس نفوذها في القارة الإفريقية، ولابد من الاعتراف بأن طرابلس نجحت إلى حد بعيد في استثمار التاريخ رغم أن فترة استعمار ليبيا وما ارتكب في حق الشعب الليبي خلال تلك الفترة لا يمكن أن يقارن بما جرى في الجزائر خلال 132 عاما من الجرائم الاستعمارية، وإذا كنا نبحث عن دور إقليمي فاعل فإننا أهدرنا فرصة تاريخية لبناء هذا الدور والأسوأ من هذا هو أننا لا نسير على طريق استدراك ما فاتنا.