ذكرى ثورة نوفمبر العظيمة هذا العام كانت مناسبة طيبة لتجديد العواطف الصادقة والإشادة بالأمجاد الشامخة وتحريك دماء العزّة والكرامة في الشرايين من جديد، وتذكير الجيل الصاعد بأن له رصيدا لا يستهان به من العظمة والإباء، وله تاريخ عظيم لا يغفله أو يتناساه إلا من أُصيب في بصيرته. الذكرى الرابعة والخمسون لاندلاع الثورة التحريرية الكبرى جاءت هذا العام متميزة في جوانب التغطيات الإعلامية وحجم المواضيع المثارة ونوعيتها، ولأن "رُبّ ضارة نافعة" فيمكننا القول إن أولئك الذين شكّكوا في عدد شهداء الثورة قبل أيام من هذه الذكرى وحاولوا المساس بالثوابت؛ قد خدموا ما يعادون من حيث لا يدرون، فقد تجنّد الجميع تقريبا لترسيخ فكر الثورة من جديد، وتواترت المؤتمرات والندوات والتصريحات والنشاطات الإعلامية لتؤكد الثوابت وتشيد بثورة أول نوفمبر وبيانها الأول الشافي الذي وضع النقاط على الحروف، ومثّل دائما الرد المفحم على كل من حاول، أو لا زال يحاول، دفع قطار البلاد في غير الطريق التي أرادها صانعو الثورة المباشرين وغير المباشرين من أولئك الذين حرّكوا الوعي الوطني وأجّجوا في نفوس الجزائريين عداء المستعمر من جديد بعد أن ظن أنه باق إلى الأبد. المجادلات والحوارات والمناقشات التي دارت حول ثورة نوفمبر هذا العام تطرقت بإسهاب إلى تلك الثلة المجاهدة التي فجرت الثورة بعد أن تحدت الصعاب والعقبات، وتناولت مراحل الثورة وأهدافها وآلياتها وفعالياتها، وتطرّق البعض إلى المناوئين للثورة، أو الذين اختلفوا مع المؤسسين لأكثر من سبب وعلة، ومن هؤلاء مصالي الحاج زعيم حزب الشعب الجزائري، وتحدث البعض عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وتأخرها في إعلان التأييد للثورة، وإن كانت الحقيقة غير ذلك حيث تؤكد البيانات الصادرة أن الجمعية بادرت إلى تأييد الكفاح المسلح خلال الأيام الأولى لانطلاق شرارة الثورة. ومؤكد في هذا الشأن أن كل من حمل السلاح في وجه الثورة مُدان، ويجب أن ينال نصيبه الوافر من التشهير والتوبيخ التاريخي، وأن يُدفع دفعا إلى مكانه القصي في ذاكرة الأجيال الحالية والقادمة بما يتناسب مع عظم جرمه وفظاعة زلّته وفداحة فعلته. وفي المقابل لا بد أن يعاد النظر في أولئك الذين خالفوا الثورة ولم يعادوها، لكن جهات ما وظروف محددة أدت إلى المبالغة في معاقبتهم وحرمان أجيال الاستقلال من التعرف عليهم وعلى أدوارهم الوطنية قبل اندلاع الثورة.. لابد من إعادة الاعتبار لهم و الكتابة عن تاريخهم بصدق وتجرد وحياد حتى يعرف الجيل الجديد ما لهم وما عليهم، خاصة أولئك الذين مهّدوا للثروة بشكل أو بآخر عبر بث الوعي السياسي وإعادة الروح الوطنية وإشعار المواطن عبر سنوات من النضال العلمي والسياسي بأنه جزائري وليس فرنسيا وأن خلاصه الحقيقي في التحرر والتميز بدينه ولغته، وليس في سياسات فرنسا ومشروعها للإدماج أو التجنيس. ومثل هذا الأمر يقود البعض إلى مسألة التصفيات أو الأخطاء التي حدثت في سنوات الثورة وبين رجالاتها وصفوفها ومناطقها، ويطنب آخرون في الحديث عن الاختلافات بين بيان أول نوفمبر ومقررات مؤتمر الصومام، ثم مؤتمر طرابلس وغير ذلك من المنعطفات المهمة في تاريخ الثورة. والحقيقة أن لكل باحث الحق المطلق في تناول تلك الأحداث بشكل علمي منهجي، لكن الحقيقة الأخرى أيضا أن الذين يريدون استعمال بعض الأحداث والوقائع للصيد في الماء العكر واهمون بل وغارقون في الوهم، لأن الثورة لم تعلن أنها معصومة من الأخطاء وأن رجالها وقادتها كانوا ملائكة يمشون على الأرض، ثم إنها في النهاية ثورة شعب حتى لو بدأت بنخبة محدودة.. وعندما تكون الثورة شعبية بأتم معنى الكلمة؛ سينعكس حال الشعب عليها، وبكل ما فيه من خير وشر أو إيجاب وسلب.. وليس هناك شعب على وجه الأرض عرف أو سيعرف النقاوة المطلقة التي يمكنه أن يضاهي بها ماء المزن. إن الثورة بشكل مجمل فوق كل تشكيك، لكن جميع جوانبها في حاجة إلى قدر أكثر وأعمق من البحث والتنقيب والتوثيق، وحتى لو عجز أو تأخر صناع الثورة الأحياء، لسبب أو لآخر، عن كتابة تاريخ الثورة الكامل؛ فلا أقل من أن يتركوا للمؤرخين جميع ما يساعدهم على الوصول إلى الحقيقة الناصعة.. فليتركوا شهاداتهم ورواياتهم وصورهم وغيرها، والأيام كفيلة بالاستفادة منها بأقصى الحدود المتاحة، وتقديمها للجيل الصاعد، ذلك الجيل الذي تعاني ذاكرته خطرا عظيما بعد أن تحالفت ضده الفضائيات الهابطة ومواقع الانترنت الرخيصة والعولمة المتوحشة.. في سعي دؤوب حثيث لتجريده من كل ما يمت بصلة إلى ثقافة وتراث وذاكرة أمته القريبة والبعيدة.