"لماذا لا يحبوننا !؟". كذلك صرخ قائلا الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن. نفس الشخص تعجب كيف أن الشبان العرب الذين يلبسون "النايك" ويرقصون على أنغام "مادونا"، ويأكلون ساندويتشات "الماك دونالد"، ويتفرجون على أفلام رعاة البقر.. يحملون الكثير من الكراهية للأمريكان. الغريب في أمر حكام الدول الغربية أنهم لا يفرقون بين الحكام العرب والشعوب العربية. هم يتعاملون مع فئة من العرب يتميزون بالكثير من الخوف والغباوة والتمسك بمباهج الحياة. فئة فقدت كل "رجلتها" ولم تعد لها كرامة، فتجدهم يرتعدون لكل غضبة من آخر حاكم من حكام العالم الغربي ومن انزعاج أي عسكري من عساكر إسرائيل. تعامل الغرب مع هذه الأشكال جعله يفشل في إدراك أغوار الذات العربية وفي فهم الأسباب الحقيقية التي تجعل المواطن العربي، حيثما كان وكيفما كانت وضعيته المادية، يتعاطف ويساند ويدعم حركة حماس الموصوفة، من طرف الغرب، بالحركة الإرهابية. مع تطور تكنولوجيات الاتصال، وتحول سماوات العرب إلى مجالات مفتوحة لاستقبال مختلف القنوات التلفزيونية، أعتقد الكثير بأنه بالإمكان تهجين هذه الأمة، وتحويلها إلى شعوب فاقدة للذاكرة وللانتماء، ومتنكرة لأواصر الأخوة. يريدونها شعوبا راقصة، مميعة، غارقة –عند الضرورة- في نقاشات دينية سطحية لا تتجاوز نقاب المرأة وطول اللحية لدى الرجل. التزاوج الذي حصل بين مخابر البحث الأمريكية المتخصصة في الحرب النفسية وحرب المعلومات وأساليب التأثير في الرأي العام من جهة، والمال الخليجي من جهة أخرى، أنتج "بوكيهات" لقنوات تلفزيونية ناطقة بالعربية وموجهة للأمة العربية وبمحتوى يستحي حتى الغربيين أنفسهم من تقديمه لمشاهديهم. الأمير طلال بن الوليد، صاحب "روتانا"، والذي هو نفسه صاحب قناة "اقرأ" !، هو خير مثال على ما يمكن أن ينتجه تزاوج العبقرية الأمريكية بالمال السعودي. قنوات "روتانا"، بأشكالها المختلفة، تهدف إلى إغراق المتفرجين العرب، خاصة الشباب منهم، في صور العري والجنس وكل ما يدعو إلى الفساد الأخلاقي وما يحرك من شعور ورغبات لدى شباب، في معظمه، محروم حتى من أبسط ضروريات الحياة. نفس المالك لمجموعة "روتانا" يقدم، من جهة أخرى، للشباب المقبل على دينه والراغب في الاطلاع على الفكر الإسلامي، ومن خلال قناة "اقرأ"، تفسيرات متخلفة وتحليلات كثيرا ما تبتعد عن المفهوم الحقيقي للدين الإسلامي السمح. معظم "الدعاة"، الذين يمرون عبر هذه القناة، لا هم لهم سوى الدعوة إلى الانبطاح والخنوع والقبول بالأمر الواقع واحترام ولي الأمر. آخر ما ابتكرته هذه القناة هو الدعاء، طوال اليوم، بأن يتولى الله أمر أهل غزة وأن ينتقم لشهدائها من إسرائيل؛ مع أن الآية الكريمة واضحة جدا، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ما سمعنا ولا داعية يفتي بوجوب قتال اليهود حيث ثقفناهم لأنهم معتدون، مع أنه سبق للكثير منهم أن أفتوا بجواز "جهاد" الجزائريين في الجزائريين !. لا أحد تجرأ وطلب من الأنظمة العربية التي لها علاقات بإسرائيل أن تطرد السفير الإسرائيلي، ولا أحد تجرأ وطلب من الحكومة المصرية أن تفتح معبر رفح وتكسر الحصار عن الفلسطينيين. لا أعتقد أنه حدث في التاريخ مثل هذا التوظيف للجنس والدين من نفس الشخص وفي آن واحد. المعروف دوما، أن القواد يبقى كذلك ولا يجرؤ على الاقتراب من المساجد إلا بعد التوبة النصوحة. المعروف أيضا أن الإمام والداعية لا يأكل من عرق النساء.. هكذا كان الأمر حتى جاء المروجون لثقافة العولمة عبر الفضائيات التي سماها أحد الصحفيين العرب بالكباريهات الفضائية. حال هؤلاء كحال الذي يفتح بيتا للدعارة ومن مداخيله يمول بناء مسجد ويدفع رواتب القائمين عليه. هذه العولمة المتعفنة –توجد عولمة إيجابية لم يستفد منها العرب بعد-، والتي أريد من خلالها فصل العرب عن واقعهم، و"تلطيفهم" وتخنيثهم، والتي صرفت من أجل تعميمها ملايير االدولارات.. هذه العولمة، لم تؤد إلى النتيجة المرجوة. الخبراء الغربيون المتخصصون في القضايا العربية كثيرا ما يظهرون في شكل المتخلفين ذهنيا إذ يصعب عليهم فهم ما يجري أمامهم. هم لا يدركون الأسباب الحقيقية التي تجعل الشاب الفلسطيني، أو اللبناني، يفضل حركة حماس، أو حزب الله، على غيرها من الحركات الداعية إلى الإقبال على الحياة، على النمط الأمريكي. إنهم لا يعرفون طبيعة الذات العربية. في أعماق هذه الأمة العربية شيء ما يجعلها تنكمش أحيانا حفاظا على ذاتها، ويصل الانكماش حد الاقتناع بأنها انتهت ولن تثور ثانية، وإذا بها تنفجر معلنة عن تضامنها مع كل عربي يقتل أو يشنق أو يسجن من طرف العدو. في الجزائر، رغم الاستعمار الذي دام أكثر من قرن وربع القرن، ورغم بطش الجيش الفرنسي، وتبشير الكنائس، وترهيب مكاتب الحرب النفسية، والقمع والتقتيل.. لم يقتنع الشعب الجزائري بأن عليه أن ينتهي أو أن يصمت إلى الأبد. وهذه غزة اليوم تثير العرب من المحيط إلى الخليج. عندما اعتقد دعاة ثقافة كامب ديفيد أن العولمة الاتصالية ميعت المواقف فإذا بالملايين من الشباب العرب ينزلون إلى الشوارع، رغم المنع، ليعلنوا عن تضامنهم ووقوفهم إلى جانب أهل غزة الذين يتعرضون لأفظع جريمة ضد الإنسانية. سنوات عدة وبعض الفضائيات العربية، الرسمية منها والغير رسمية، تتحدث عن حماس الفلسطينية مقدمة إياها على أنها حركة إرهابية، وبلغ الأمر ببعضها، لدى معالجتها لأخبار المنطقة، الميل إلى الأطروحات والتفسيرات الإسرائيلية على حساب الحقيقة والموضوعية. لعل آخر من تحدث في الموضوع هو مصطفى الفقي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب المصري، الذي قال صراحة، في حديث لقناة "الجزيرة"، بأن "مصر لا تريد إمارة إسلامية على حدودها". الغريب أن نفس النظام المصري يقبل ويرضى، ولعله فرح، بوجود "إمارة" يهودية على حدود قاهرة جدنا المعز، بل هو يتعامل مع هذه الإمارة الخارجة عن كل قوانين الأرض والسماء، ويستقبل حكامها، ويتفهم مواقفهم، ويقبل بتهديداتهم التي يطلقونها من أرض الكنانة –كما كانت تسمى-. كل الأموال التي صرفت وكل المجهود الذي بذل من أجل تشويه آخر ما تبقى من عناصر المقاومة في هذه المنطقة العربية اندثر مع وصول أولى الصور لشهداء غزة. بعض القنوات المعروفة بمساندتها للمشروع الأمريكي المسطر للمنطقة العربية، تجاهلت في الأيام الأولى ما كان يقع في غزة، مما جعل الكثير من المعلقين في مختلف المواقع على الأنترنيت يصفونها بالقنوات العبرية، الشيء الذي أجبرها على تدارك الوضع والقيام بتغطيات للحدث على طريقتها. ما يقع في غزة وحد الشعوب العربية، وبين بأن جهود العولمة الرديئة لم تأت بنتيجة بل أن مناضلين عرب يستفيدون من وسائل الاتصال اليوم لنشر صور أطفال غزة وإرسالها إلى مختلف جهات العالم، بل وإمطار مواقع الجرائد والتلفزيونات الغربية بها.