الخطاب الذي تسوقه جل الأحزاب وحتى الشخصيات "الثقيلة" التي تتبنى خيار مقاطعة الانتخابات الرئاسية يغرف في الغالب من أطروحات قديمة تغالي في التخويف من التزوير والتلويح بما يسمى ب "الأغلبية الصامتة" من خلال تحويل الامتناع عن التصويت إلى هاجس حقيقي وسلاح وحيد لخوض المعارك ضد ما تسميه ب "مرشح السلطة"، لكن السؤال المطروح هو هل هذه الأحزاب والقوى السياسية لها فعلا وزن حقيقي في الساحة ووعاء انتخابي تخاف عليه من الضياع في اقتراع "خال من كل الضمانات الحقيقية" . يشكل خيار مقاطعة الانتخابات إستراتيجية سياسية بحد ذاتها لعدد من الأحزاب المعارضة التي تعودت على اللجوء إلى هذا الأسلوب السهل عند كل منعرج سياسي حاسم، لكن لا يجوز وضع كل الأحزاب والقوى السياسية التي تتبنى هذه الإستراتيجية في كيس واحد، فهناك ما يسمى بالمعارضة الجادة التي يمثلها حزب جبهة القوى الاشتراكية والتي تلجأ إلى خيار المقاطعة انطلاقا من قناعة ثابتة بضرورة إحداث تغيير سياسي راديكالي على الحكم وتغييره بصفة جذرية، وهذا الموقف ينطلق من فكرة أن العملية الانتخابية هي مجرد أداة تستعملها "السلطة الفعلية" لتبرير وجودها وإضفاء نوع من الديكور على العملية السياسية ومن ثمة اكتساب شرعية ولو صورية يمكن تسويقها داخليا وخارجيا، وبرأي الأفافاس مثلا فان سياسة الكرسي الشاغر هي الخيار الأقل سوءا لتجنيد المواطنين ضد نظام الحكم، علما أن هذا الأسلوب في العمل السياسي كانت له تبعات جد سلبية على مسار هذا الحزب وتسبب في نزيف حاد عرفه في فترة سابقة فضلا عن ضياع منبر سياسي هام كان يمكن استعماله لتمرير خطاب الحزب بدلا من التذرع بغلق المجال السياسي والإعلامي أمام المعارضة. لكن في مقابل هذا الموقف الذي يمكن تفهمه ولو بشكل نسبي هناك موقف أخر تمثله قوى لم تتعود على أسلوب المقاطعة، وتفشل حتى في إيجاد مبررات مقنعة لسبب لجوئها إلى الامتناع عن المشاركة في العملية الانتخابية، فحزب مثل التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية يركز موقفه على حسابات سياسية خاصة ليس لها أي علاقة بما يسوقه من حجج ونفس الشيء ينطبق أيضا على حركة النهضة وعلى جل الشخصيات السياسية التي لجأت إلى المقاطعة بشكل مبكر واستعملت نفس الخطاب لتبرير اختياراتها. والملاحظ أن كل هذه الأطراف التي ترفض المشاركة في الاستحقاق الرئاسي تلتقي في نقاط مشتركة وتتقاطع حول عدد من القواسم أهمها ما تعلق بالحديث عن غياب ضمانات حقيقية حول شفافية ونزاهة العملية الانتخابية، والتخويف بالتزوير وعدم حياد الإدارة والمبالغة في تسويد المناخ السياسي بالقول أن السلطة تغلق المجال السياسي والإعلامي ولا تنوي إجراء اقتراع رئاسي يستجيب لمتطلبات التداول على السلطة والممارسة الديمقراطية الحقيقية. لكن وفي ظل هذه الحجج التي تحولت إلى "برنامج سياسي" لدعاة المقاطعة يتوجب طرح السؤال هل حقيقة أن هذه القوى السياسي سواء كانت أحزابا أو شخصيات توصف بالثقيلة تخاف على ضياع أصواتها بفعل التزوير كما تدعي، وهل وزنها الانتخابي ووعاؤها يسمحان لها فعلا بمنافسة بوتفليقة؟ بعض الأحزاب المعارضة تمارس نوع من النفاق السياسي وتستعمل المقاطعة والتزوير والمراقبين الدوليين وغلق المجالين السياسي والإعلامي لتغطية ضعفها وتبرير هروبها نحو الخيار السهل المتمثل في رفض المشاركة في العملية الانتخابية، ولو حاولنا دراسة الأطراف التي أعلنت مقاطعة الرئاسيات حالة بحالة سوف نقف على هذه الحقيقة ونصل إلى استنتاج بأن جل الذين سارعوا إلى المقاطعة إنما هدفهم الوحيد هو الاستثمار فيما يسمى بالأغلبية الصامتة انطلاقا من تحليل أولي يرجح أن تشهد الرئاسيات نسبة امتناع قد لا تبتعد كثيرا عن النسبة الكارثية التي رأيناها في الانتخابات التشريعية الفارطة. ونظرة بسيطة على الأسماء التي أعلنت بشكل مبكر رفضها دخول الاستحقاق الرئاسي تجعلنا نتبين أهدف المقاطعة وخلفياتها، ذلك أن العديد من هذه الوجوه التي تدعي الخوف من التزوير وتتحدث عن نتائج مرتبة سلفا لصالح من تسميه ب "مرشح السلطة" تعلم يقينا أنها لن تقدر حتى على جمع عدد التوقيعات لاستيفاء الشروط المطلوبة لدخول المعترك الانتخابي، وربما باستثناء رئيس الحكومة السابق مولود حمروش وباستثناء زعيم الأفافاس حسين أيت أحمد وزعيم الأرسيدي سعيد سعدي فإن باقي المقاطعين لن يقدروا على مجرد الفوز بمكان وسط المترشحين للرئاسيات فما بالنا بمنافسة بوتفليقة. وحتى الأسماء المستقلة أو القيادات الحزبية التي باستطاعتها المشاركة لو أرادت في العملية الانتخابية لتوفرها على قواعد نسبية تمكنها من جمع التوقيعات المطلوبة تبقى عاجزة عن الحديث عن نصر في الرئاسيات المقبلة حتى ولو اجتمع الجن والإنس على مراقبة الاقتراع ونزلت الضمانات بشأن نزاهة الرئاسيات من السماء، فوزن هذه الأحزاب مهما كان مهما لا يمكن أن يصل إلى وزن الأحزاب التي تدعم بوتفليقة أو حتى إلى الرصيد الشعبي والسياسي لبوتفليقة، ثم إن حزبا كالأرسيدي مثلا لا يقدر حتى على منافسة غريمه الأفافاس في عقر داره فكيف له أن يدعي القدرة على منافسة أحزاب التحالف الرئاسي مجتمعة؟ كان على المقاطعين أن يعترفوا بلا خجل أنهم عجزوا عن تقديم شخصية قادرة على منافسة بوتفليقة، وليس لهم ما يقدمونه للمواطنين ويطلبون به ودهم، فضحالة رصيدهم السياسي جعلتهم بعيدين عن السواد الأعظم من الشعب الجزائري الذي لم يعد يتغذى من الخطاب الإيديولوجي وأصبح يفضل الخطاب الواقعي والعملي المعزز بالنتائج الميدانية، ثم إن رهان أحزاب التحالف الثلاثة "الأفلان والأرندي وحمس" على بوتفليقة لم يكن لينطلق من فراغ، فهذه الأحزاب تمثل إلى حد ما أغلب التوجهات السياسية في المجتمع وتعكس الأغلبية بمشروع المجتمع الذي تطرحه، ومن جهة أخرى فإن لمرشحها رصيد سياسي كبير تدعم خاصة خلال العهدتين الرئاسيتين، رصيد مدعم بانجازات معروفة على صعيد المصالحة الوطنية واستعادة الأمن وعلى صعيد إعادة الاعتبار لمؤسسات الدولة وتحسن صورة البلد خارجيا، فضلا عما تحقق في المجال التنموي . عيب أغلب المقاطعين هو في خلفياتهم المبنية على عداء شخصي لعبد العزيز بوتفليقة، وتغليب الاعتبارات الشخصية هو الذي يجعل هؤلاء عاجزين عن تقديم نقدا بناءا لحصيلة الرئيس بوتفليقة والإستراتيجية السياسية والتنموية التي انتهجها منذ بداية ولايته الرئاسية الأولى، وفي مثل هذا الموقف وهذه الوضعية يبرز التساؤل عن مرتكزات المقاطعين خلال حملة الرئاسيات وهل باستطاعة هؤلاء إقناع المواطنين من دون عرض برنامج بديل وبعيدا عن التخمينات غير المؤسسة حول غياب الضمانات ونية السلطة تزوير الاقتراع ؟