المتتبع لأجواء الجدل الدائر حول الانتخابات الرئاسية المقبلة يلاحظ تلك الإرادة الراسخة لدى بعض التشكيلات أو حتى الشخصيات السياسية التي تصنف نفسها في خندق المعارضة للمحافظة على علاقة الصراع بين مكونات الفعل السياسي بشكل العام، ويبدو الموقف الذي تتبناه القوى الرافضة لخيار المشاركة في العملية الانتخابية موغل في خطاب تسويدي، يتفاعل سلبيا مع كل ما يأتي من السلطة، وهو ما يوحي بوجود سيناريو وربما أكثر للعودة بالبلاد إلى دائرة الأزمة مما أتاح فرصة أخرى للجماعات الإرهابية للمساهمة من جهتها في تسميم الوضع عبر محاولة التصعيد وارتكاب اعتداءات ضد قوات الجيش والأمن والمدنيين. يتخوف بعض المتتبعين للمشهد السياسي الوطني مما يسمونه احتمال عودة البلاد إلى مربع التأزيم المفتعل، بمعنى أن هناك مؤشرات قد لا تبدو حاليا قوية بما فيه الكفاية لإعادة الجزائر إلى مربع التجاذبات السياسية القديمة المشكلة من رواسب تاريخية أو اعتبارات شخصية أو لها صلة بنزاعات مطمورة داخل السلطة نفسها، وبرأي هؤلاء فإن جولات التعفين التي كنا نتابع فصولها من حين لآخر في منتصف أو نهاية التسعينيات قد تعود إلى الواجهة قبيل الانتخابات الرئاسية المرتقبة في التاسع من أفريل المقبل، وبطبيعة الحال متى كان هناك سعي للتعفين بأدوات سياسية ظهر العنف الإرهابي على سطح الأحداث، فالجماعات الإرهابية، ومهما كان الضعف الذي توجد فيه، تنتعش بمجرد تهيئة الظروف المناسبة لها لتبرير عملياتها وإيجاد مخارج لجرائمها بدعوى أن السلطة معزولة وأن مخاصمتها أمر مشروع حتى وإن كان بوسائل غير مشروعة. ما من شك أن الجزائر قد تجاوزت أزمتها السياسية بعد عودتها إلى المسار الانتخابي العادي، إلا أن طبيعة الجدل الدائر حاليا يوحي وكان بعض التشكيلات السياسية لم تستطع استيعاب هذا التغيير ولا تزال تحن إلى تلك الحقبة التي كان فيها التعايش بين التشكيلات السياسية من قبيل المستحيل ناهيك عن التعايش مع السلطة، وما يؤكد على هذه الحقيقة مضامين الخطاب الذي تتبناه شخصيات سياسية وقوى متخندقة في صف الرافضين المشاركة في الاستحقاق الرئاسي المقبل. فمن يسمون بدعاة المقاطعة يصرون على اتهام السلطة بغلق المجال السياسي والإعلامي، ويتمادون في تغليب أطروحات قديمة تتحدث عما تسميه ب "مرشح السلطة" في إشارة إلى الرئيس بوتفليقة، وتعتبر هذه القوى السياسية أن العملية الانتخابية مجرد مسرحية تدار بديكور جديد هدفها ضمان ولاية رئاسية ثالثة للرئيس المترشح، والمعروف أن رفض هذه القوى للتعديل الدستوري الذي تم في منتصف نوفمبر المنصرم بني على نفس التأويلات المذكورة، أي أن بوتفليقة يسعى لخلافة نفسه، وفي اعتقادها لا مجال للحديث عن رئاسيات تعددية ونزيهة دون إزاحة بوتفليقة من ميدان المنافسة على كرسي الرئاسة. هذه "القناعة" جعلت العديد من الوجوه السياسية التي كانت تنشط مثل هذه المواعيد السياسية تعلن انسحابها من المعركة على عرش المرادية، والتحقت بها فيما بعد أحزاب أخرى هي جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ومؤخرا حركة النهضة، والملاحظ أن كل هؤلاء لم يتركوا أي فرصة للسلطة لإثبات حسن نواياها ولإعطاء الدليل على رغبتها في تنظيم انتخابات تحترم شروط الممارسة الديمقراطية الحقيقية. لكن وعلى قدر خطاب المقاطعين وخطورة أهداف بعضهم الظاهرة أو الخفية جاءت استجابة السلطة لمختلف المطالب وحتى الشروط التي طرحها البعض لضمان نزاهة العملية الانتخابية، بل إن بوتفليقة زاد على هذه المطالب بالإعلان عن جملة من التدابير التي تؤكد رغبة السلطة في تجنيب الاستحقاق الرئاسي كل ما يمكن أن يشوبه والابتعاد به عن التدليس الذي حولته بعض الأحزاب المقاطعة إلى غول تخوف به الداخل وتستعمله للاستجداء الخارج، ومن هذا المنطلق دعا الرئيس بوتفليقة حكومته إلى دعوة ملاحظين دوليين من أربعة منظمات دولية وإقليمية وقارية تعتبر الجزائر من ضمن أعضائها، بل لم تمانع السلطة حتى من دعوة ملاحظين من منظمات أخرى على غرار الاتحاد الأوربي متى رغبت هذه المنظمات في ذلك، كما تم إنشاء لجنة وطنية سياسية مستقلة لمراقبة الرئاسيات، وتجريم كل عمل يكون غرضه الامتناع عن تسليم محاضر الفرز يوم الاقتراع، وأصدر الرئيس كما هو معروف أفريل حددت جملة من الضوابط لضمان نزاهة الاقتراع، من ضمنها إلزام الإدارة بالحياد التام في التعامل مع مختلف المترشحين. فلا أحد بإمكانه أن ينكر بأن الضمانات المقدمة كافية وجد محفزة للمنافسة على كرسي الرئاسة، علما أن بعض الأحزاب على غرار الأرسيدي لم يتبق لها ما تتحجج به بعدأن تمت الاستجابة لكل الشروط التي طرحتها، فما الذي جعل جبهة المقاطعة تواصل حملتها؟ والجواب على ذلك يمكن تحديده في جملة من العوامل أهمها أن الأحزاب أو حتى ما تسمى بالشخصيات الثقيلة التي أعلنت رفض المشاركة في الاستحقاق الرئاسي تيقنت بعدم قدرتها على خوض المنافسة ضد مرشح يملك كل إمكانيات الفوز خاصة وأنه مدعوم من قبل أهم التشكيلات السياسية التي تمثل السواد الأعظم من الجزائريين. وإذا كانت بعض الشخصيات "الكبيرة" لا تزال تعاني من رواسب صراعات شخصية وحتى تاريخية فإن ركوب الأفافاس قطار المقاطعة يرتبط بحسابات سياسية معروفة لهذا الحزب الذي يسعى إلى الاستثمار في نسب الامتناع الانتخابي، ويستعمل مواقفه الراديكالية للمحافظة على مواقعه بمنطقة القبائل التي تعتبر أكثر مناطق الوطن من حيث العزوف الانتخابي، فأطروحات هذا الحزب التي لا تزال تقتات من طروحات التغيير الجذري للنظام هي مجرد غطاء يسمح لهذا الحزب بالحياة في وجه الأزمات التي تعصف به من حين لآخر بسبب مرض الزعامة الذي يسيطر عليه، وأما الأرسيدي فإن خروجه هو الأخر من المعركة يرتبط بعوامل داخلية جعلت سعدي "يتعفف" من كرسي الرئاسة من أجل المحافظة على زعامته في حزبه، وإذا كان موقف حركة النهضة يندرج ضمن الانتقام من السلطة التي لم تقدم أي مقابل لتشكيلة ربيعي عن تأييدها لبوتفليقة خاصة فيما يتصل بالمصالحة الوطنية، فإن "خرجة" زعيم "الفيس" المحل الشيخ عباسي مدني الأخيرة هي مجرد محاولة لركب قطار المقاطعة وكسب شرعية وسط المعارضة الراديكالية ودغدغة عواطف ما تبقى من قواعد الحزب المنحل أو الوعاء الانتخابي الإسلامي بصفة عامة. والملاحظ أن هذه القوى لم تكتف بالحديث عن التزوير بل خاضت بشكل غير مسبوق في خطاب تسويدي رسم لوحة قاتمة عن الوضع داخل البلاد على جميع الأصعدة، فهذه القوى التي لا يعرف أحد طبيعة برنامجها وما تقترحه على الجزائريين أضحت تمتهن التزوير على المكشوف مع أن ما أنجز خلال السنوات الأخيرة كافي لوحده للرد على هذا الخطاب الذي يخدم من حيث يدري أصحابه أو لا يدرون سيناريوهات التعفين. وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الخطاب يوفر الأرضية الخصبة لكل من يريد العبث باستقرار البلاد، وعندما يرجح وزير الداخلية نور الدين يزيد زرهوني وجود علاقة بين الاعتداء الإرهابي الأخير الذي شهدته جيجل والرئاسيات، فإن ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأن محاولات التصعيد الإرهابي، التي تأتي في وقت تعاني فيه الجماعات الإرهابية الحصار والضعف والتطاحنات الداخلية على خلفية عودة موجة "التوبة"، إنما تخدم نفس الغرض أي دعم مساعي التأزيم.