مع أنه شغوف بالحرف..ولوع بالكتاب..مهووس بالمعنى..إلاّ أنه يميل إلى مشاهدة "توم وجيري" تلك الرائعة الهوليودية.. هو يخصص بعضا من وقته للرسوم المتحركة..هو يذكر صباه ويقصّ على أولاده حكايا كان فيها بطلا مثل "بلاك لوروك"، تلك الأشرطة المصورة التي أغنت خيال جيله آنذاك..يحدثهم عن "بيف" و"بوباي" وعن قصص مشوقة علّمته لغة قوم آمن شرّهم..! كان يحدثهم عن "عمي موح" البقّال الذي يلجأ إليه ليبشّره بوصول عدد جديد من "بلاك لوروك" حتى يعطيه النقود ليبتاع له نسخة ب 10 دورو.. "عمي موح" لا يفتأ يقرأ العدد في ساعة أو ساعتين، يكون فيها صاحبنا مرابطا أمام محله ليلقي بالمجلة إليه قائلا: "هاك ياولد أتمتّع"! صار الآن أبا..لكنه لا يعرف لماذا يهجر هذا الجيل الكتاب والمطالعة..ويأسف لأنه لا يتقاسم من ميراث مع أولاده غير "توم وجيري" و"بوباي".. صار الآن أكثر التصاقا بالأرض..بالحياة والتاريخ.. كل كتاباته عن الإنسان..يتعقّب أثر الإنسان في الإنسان..يحاول أن يجيب عن السؤال الكبير: لماذا "تحيّون الإنسان"؟ لماذا أضحى شيئيا أكثر؟ دمويا أكثر؟ لقد وصل إلى مفتاح الجواب يوما وخاطب في الناس قائلا: إنسان بلا ذكريات..إنسان عنيف! هو يذكر أن هذا الاكتشاف توصّل إليه وحده بفعل تجربة مرّة لخّصت تفاصيل أيامه في موقف أعزل لم يدم إلاّ لحظات..حينها تساءل عن جدوى الكتابة في بلد يعاني من الإصرار على التخلّف..! حينها كان مارا ببائع كتب ومجلات قديمة على رصيف قديم في الدشرة المسمّاة مجازا العاصمة.. انحنى ليتصفّح عددا مغبرا من شريط مصور (ميكي كما يسميه أولاده) وسأل: شحال هذا؟ ردّ البائع بقوة: 20 دينارا لم يستغرب لأن 10 دورو نتاع بكري هي 20 دينار الآن..لكنه التفت إلى كتاب "فلسفة ابن سينا".. كانت النسخة جديدة لم تعبث بها الأيدي، واستفسر عن ثمنها فقال الرجل دون أن يرفع صوته: 5 دنانير..! يومها أدرك صاحبنا أن بلدا يُقبل فيه الناس على "ميكي" وينفرون من ابن سينا ليس جديرا بشيء.. ومنذ ذاك التاريخ هُزم وقرّر أن يجلس إلى أولاده ويحدّثهم بكل الشوق الكبير عن حكايا وذكريات جعلت ميكي هو السائد وابن سينا مجرّد بائس..! أما بعد: "بعض الهمّ أهون من بعض".