قد يكون هذا الهامش هو الهامش الخمسون الذي أكتبه في هذه المساحة، التي منحها لي ”الفجر الثقافي” منذ إطلاقه السنة المنفرطة، في خطوة جريئة من إدارة الجريدة في الرهان على الثقافة في وقت عزّ من يراهن عليها، بهكذا نظرة متبصّرة إلى أهمية الثقافة ودورها في تحقيق القفزات الحضارية المنشودة، وبرؤية استشرافية ترى في أن الرهانات المقبلة ستكون على المعرفة وصناعة الأفكار. لقد تواطأ معي ”الفجر الثقافي” حين منحني شرف أن أكون صوتا يعبّر عن الهامش، بكل ألقه وإشراقاته وبؤسه وإخفاقاته، في الوقت الذي تنزع فيه كثير من الصحف لمنح صفحاتها لرموز المركزية الثقافية بمختلف تجلياتها وأبهتها، وأي جرأة أكبر من أن تحجز مساحة بيضاء في أولى صفحات الملحق الثقافي لشاعر، يسكن قرية عزلاء منسية، قد لا يصل هامشه في آخر لحظة، لأن الأنترنت منقطعة عن مدينته لأيام متوالية، أو لأنه منشغل بشؤون التدريس والدراسة، وظروف الحياة ومشاغلها.. لقد اخترت عنوان الهوامش إيمانا مني بأن الهامش والمركز حقيقتان قائمتان في تاريخ ثقافتنا العربية والجزائرية، حتى وإن أدّت الثقافة العولمية إلى تقليص المسافة بينهما. وقد عانى الهامش دائما من القمع والتهميش الذي يظل واحدا من الآفات التي ما زالت تنخر جسم مشهدنا الثقافي، الذي يجب أن ينأى عن التنكّر لملكات أبنائه ومواهبهم، وأن لا يحتكّم إلى معيار الجغرافيا في تقييم العطاء أو تثمين جهود الفاعلين فيه والاحتفاء بهم. مازلت عند رأيي بأن الثقافة هي ما تصنعه الهوامش الاستثنائية، لأنها تتأسّس على ما يبدعه الإنسان وحسب، بعيدا عن بهرجة المكان وسطوة الجغرافيا، وجلال الحواضر والعواصم المليئة بكل المرافق ومتطلبات الحياة. وقد علّمتني ثقافتي التقليدية، بكتبها العتيقة ومخطوطاتها الصفراء بحواشيها التي تحيط بالمتن، بأن تلك الهوامش أهم من المتن، وبدونها لا معنى له، أو بمعنى آخر أن الحاشية أو الهامش هو الذي يضيء النّص ويصنع قيمته.. كذلك الشأن بالنسبة لحياتنا الثقافية الموزعة بين مركز يفرض نفسه بقوة الموقع العاصم المعصوم، بالاعتماد على الوسائل والإمكانيات والإعلام والنشر المتمركزة في العاصمة، وبين هامش يحاول أن يفرض نفسه محروما من كل ذلك، ومستندا إلى إمكاناته الذاتية التي تقصر في أحيان كثيرة عن بلوغ المأمول. مما أدى بكثير من طاقاته إلى اليأس وحرمانها من التعبير عن نفسها. كما أدى إلى ظهور مصطلح ”الهامش” في أدبياتنا بشكل لافت، يستحق التأمل والدراسة كنوع من رد الفعل الناقم والساخط على واقع ثقافي غير عادل في منح فرص الحضور الإبداعي والكتابة على قدم المساواة، وبشكل مفضوح يتفاوت بين الشمال والجنوب، بين العاصمة والأطراف. وبعيدا عن روح المغالبة بين المركز والأطراف، والمتن والهامش، وخلال هذه الهوامش الخمسين، أثرنا قضايا كثيرة سجالية وإشكالية تعبّر عن هذا وذاك، مما يتصل بواقعنا الثقافي، لقينا فيها تجاوب القرّاء قبولا وإيجابا وسلبا واختلافا. ويشفع لي في أي تقصير بدر مني، أنني كنت في السنة الأولى ”هوامش”.. كل فجر ثقافي وأنا وأنتم بألف خير. ومن الفجر ينبلج الهامش ليشرق أكثر وأكثر.. أحمد عبد الكريم