بعد سنوات من المماطلة المقصودة، جمعت أخيراً كل أشرطة الكاسيت في علبة كارتون ومشيت بها إلى قمامة الحي القريبة، لقد ضجرت منها الأمكنة، وهي لا تغني.. ضاقت بها كل الأركان التي حاولت الوفاء نسياناً، لكنها كانت في كل مرة تخرج أمعاءها البنية القاتمة وعبثا أحاول بتر الزائد منها.. في كل مرة كان يخرج الفؤاد باكيا.. فما عُدت أطيق خراب أصواتها في ذاكرتي ألوانها السوداء والبيضاء قديمة.. حتى الجديد الشفاف منها يطل بأفول صامت.. مكسور كما عجوز طاعنة في السكوت.. تريد ترك حنجرتها للمكتوم القديم فلا توافق أمانيها النبرات الهاربة. شيء واحد لا يهرب، يطعن الذاكرة ويتمتم بالذي سجلته العيون.. يبكي.. ربما يشتاق لرائحة قديمة إلى شرائط الكاسيت، إلى المذياع، إلى كل شيء له رائحة وملمس ترابي يتمرغ فيه الإدراك.. الآن لا رائحة للإفتراض. المذياع الأساسي في البيت جلبه جدي من العمرة الخامسة أو السادسة في ورعه الجميل.. وكنت أحب ماجدة الرومي كثيراً.. أحمله بهدوء إلى غرفة الاستقبال.. تلك الغرفة المرتبة والجميلة التي لا ننام فيها، كم نحن أغبياء نترك أحلى ما نملك للضيوف - لا أعرف إن كان ذلك إيثارا مبالغا، أم أنه تباهي ينم عن عناد مكشوف - عموما كنت أضع شريط ماجدة الرومي..”ما حدا بيعبي.. مطرحك بقلبي”، ويعاندني الشريط.. يتمزق ويصير “يسرط” فأفتح الشريط على مهل، وأنزع مسامير التثبيت الأربعة ثم أحاول لصق الشريط بواسطة شريط لاصق.. والمصيبة لو أنني أخطأت في الجهة.. سوف يمشي الصوت “مارشاريار”. كم فعلت ذلك بحب، وكم كان مذياع جدي يبتلع الألحان.. في الجامعة أيضا استعملت طويلا “الولكمان” ظلت الأجهزة دوما تبتلع.. حتى جاء الحوت الكبير وابتلع كل شيء.. آخر شريط كاسيت اشتريته كان سنة 2003 لفيروز.. وبعدها صارت الألحان لا لون لها ولا رائحة مجرد “ملف” باهت لا يركب اليدين. ربما البعض منكم لا يزال يحتفظ بالأشرطة، وقد لا تهون عليه.. لكنها الأمور المادية تتعفن.. لنتركها إذن صالحة وفي حالة جيدة حتى لا تؤلمنا أمعاءها المطعونة في حنجرتها في كل مرة. هاجر قويدري