في سنة 1992 قال المرحوم بوضياف في خطاب رسمي: إنه لم يجد 60 إطارا نظيفا في الجزائر ليعينهم في المجلس الاستشاري الذي عوض المجلس الشعبي الوطني في المرحلة الانتقالية التي أعقبت إلغاء انتخابات 1991، التي فاز بها الحزب المحل. واستغرب الرأي العام آنذاك مثل هذا التصريح من الرئيس بوضياف وقال بعضهم: كيف لزعيم بحجم بوضياف أن يقبل برئاسة بلد على هذا القدر من الفساد بحيث لا يجد من بين 25 مليون جزائري 60 إطارا نظيفا ليعينهم في المجلس الاستشاري؟! ماقاله الرئيس بوضياف آنذاك كان يدل على حجم كارثة الفساد الذي وصلته البلاد.. وفي نفس الوقت حجم العمل الذي ينتظر رئاسة الزعيم النظيف الذي جاء ليرأس الشعب ”الخامج”! ومنذ أيام سمعت أن السيد وزير العدل الطيب بلعيز قال في رده على سؤال وجه له من طرف أحد نواب البرلمان حول تأخر الحكومة في موضوع تنصيب أعضاء المرصد الوطني لمكافحة الرشوة.. فقال الوزير: إن الحكومة ماتزال تبحث عن 6 أعضاء يتمتعون بالنظافة والكفاءة ولم تجدهم حتى الآن! معنى هذا الكلام أن الوضع الذي تحدث عنه المرحوم بوضياف بخصوص الفساد قد تضاعف في 18 سنة أكثر من عشر مرات! وبالفعل، قد يكون بوضياف وبلعيز على حق فيما يقولان.. فالفساد في الجزائر أصبح كل شيء! وأصبح المفسدون يتمتعون بشعبية عالية. فبوضياف كان على حق فعلا.. لأنه عندما قدمت له قائمة أعضاء المجلس الاستشاري الستين لم يكن راضيا عنها والدليل أنه قال عند تنصيبهم في قصر الأمم إنه نصب في هذه الهيئة ”ستون باندي”! وقد أعطته الأيام والوقائع كل الحق فيما قال. واليوم، تحتار الحكومة في تعيين ستة ”نزهاء” في مرصد مكافحة الرشوة.. ويأخذ أمر اختيارهم كل هذا الوقت! وهذا الجدل! ولعل السبب حول الخلافات بين المرتشين الذين لابد أن يكون لهم رأي في أعضاء هذه الهيئة للحفاظ على السلامة والأمن القومي للمرتشين! القضية بهذا المعنى أن الفساد لم يعد يهدد اقتصاد البلد فحسب، بل أصبح يهدد وجود الدولة نفسها ومؤسساتها ويشلها كلية عن العمل! ترى كيف الشلل الذي أصبحت فيه البلاد بحيث أصبحت عاجزة عن إيجاد الموظفين النزهاء لما تقترحه من مؤسسات لتحسين التسيير! وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم لماذا يتم الحديث عن الفساد والمفسدين في أجهزة الدولة وتعجز الدولة عن تغييرهم ربما لأن الفساد أصبح هو الذي يتحكم في التعيين والعزل.. فلا يعين المسؤول إلا إذا كان ملفه الفسادي لا يحمله الحمار المصري القوي كما يقول المثل، ولايعزل المفسد من المنصب إلا إذا وجد من هو أكثر منه فسادا وبالملفات التي لا تقبل الجدل! ترى، لماذا تبقى شركة مثل شركة سوناطراك مدة طويلة بلا مدير ويقوم الوزير نفسه بتسيير شؤونها إلى حين أن وجد المدير! وعندما اتهم المدير بالفساد وتم توقيفه عن العمل بقيت المؤسسة تسير من طرف مسؤول بالنيابة مرة أخرى؟! ربما إلى حين إيجاد مفسد مهم ويحظى برضى كل زمر الفساد في البلاد؟! وعندما يصل الفساد إلى حد تصفية مدير الأمن الوطني جسديا تختلف أيضا الزمر حول موضوع تعيين المدير الجديد! ويبقى المنصب يسير بالنيابة لشهور وربما لأيام؟! هل ترك مناصب حساسة مثل سوناطراك والأمن الوطني تسير بالنيابة دليل على أن ماقاله بوضياف قبل 18 سنة وماقاله بلعيز اليوم هو الحقيقة المرة؟! ألا تدفعنا هذه الحقيقة المرة إلى إعادة النظر جذريا في أساليب تعيين المسؤولين وأساليب إبعادهم عن المسؤوليات العمومية! إن الشفافية ليست في التسيير السياسي والاقتصادي فقط، بل أساس الشفافية هي أن تكون عمليات تولي مناصب الدولة محل تنافس بين الأشخاص المؤهلين بعيدا عن طرائق التعيين الحالية التي تتم بواسطة إسناد المسؤوليات وقد أثبتت هذه الطرائق عقمها وكارثيتها على البلد! منذ أيام قرأت خبرا يقول : إن الحكومة الجزائرية ستسعى إلى استعادة أموال احتياطي الصرف الموضوعة في الخارج! وتساءل الرأي العام لماذا تفعل الحكومة هذا الإجراء اليوم ولم تفعله بالأمس؟! هل وضع الأموال الجزائرية في الخارج كان خطأ من الحكومة وتريد تصحيحه؟! وإذا كان الأمر كذلك لماذا لا تقال الحقيقة للرأي العام ؟! بعض المعلومات غير المؤكدة تقول: إن تنامي الفساد في الجزائر مؤخرا كان بسبب إنهاء دور صندوق النقد الدولي في مراقبة الاقتصاد الجزائري! وأن هذا الصندوق كان من بين إيجابياته مكافحة الفساد! وأن يد المفسدين قد أطلقت عندما غادر هذا الصندوق الجزائر؟! فكيف حدث هذا ولماذا؟! بعض المعلومات تقول أيضا: إن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة للحد من تحويل الثروات الوطنية للخارج بواسطة عصابات الفساد الوطني والدولي هي التي كانت وراء إطلاق بعض الدول الغربية التي بها أموال الاحتياطات الجزائرية لفكرة أن الجزائر ليس بإمكانها التصرف في هذه الاحتياطات وتحويلها كما تشاء.. لأن هذه الاحتياطات هي في النهاية الضمانة الوحيدة التي تملكها هذه الدول لقاء الأخطار التي تواجهها شركاتها العاملة في الجزائر! معنى هذا الكلام أن البلد أصبح بالفعل رهن أخطبوط الفساد.. ولا يمكن أن يخرج منه.. وأن فرصة الطفرة المالية البترولية تكون قد ضاعت مرة أخرى من الجزائر؟! مصيبة البلاد أنها لا تملك أجهزة جدية للمساءلة عن مثل هذه الأمور الخطيرة والتي تتجاوز آثارها مجرد فساد أشخاص إلى فساد ”السيستام” ككل؟! لقد قال لي أحد السياسيين المحنّكين ذات يوم: إن أموال البترول المودعة في الخارج بالطريقة التي تمت بها تدل على أنها لن تعود إلى البلاد أبدا! وسيوجد الذين وضعت عندهم آلاف الأسباب لجعلها لا تعود! وأمام هذا المصاب الجلل إذا حدث لا نملك إلا أن نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! منه العوض وعليه العوض؟!