لم يبالغ الإعلام الفرنسي في الترويج لكتاب مذكرات الرئيس السابق جاك شيراك ”كل خطوة يجب أن تكون هدفا”، الذي باع منه في فترة قياسية 250 ألف نسخة، بما فيها الألف ومائتي وعشرين نسخة التي وقعها في صالون كتاب ”بريف” التابعة لمنطقة مسقط رأسه لاكوريز، التي يحن إليها في كل الأوقات. وحكاية الترويج لمذكراته لم تكن ثقافية خالصة لأنها كشفت عن صراع سياسي شهير عاد إلى واجهة الأحداث الطريف في أمر رواج كتاب الرئيس شيراك الذي مازال أحب شخصية لدى الفرنسيين، حسب آخر استطلاعات الرأي، إلى جانب الرياضيين زين الدين زيدان ويانيك نوا، تمكنه هذه المرة من حسم معركته السياسية والفكرية والشخصية مع الرئيس جيسكار ديستان، الذي فشل فشلا ذريعا أمام خصمه في ميدان لا يقل أهمية عن المعترك السياسي، ونقصد به مجال الكتاب الذي أصبح اليوم سلاحا حادا في أيدي السياسيين والإعلاميين ورجال الأعمال والمال، ونجوم المجتمع لتصفية حسابات قديمة ورد الاعتبار لعزة النفس المداسة. وظهر شيراك أقوى من ديستان منذ الأيام الأولى التي أعلن فيها عن انطلاق الحملة الإشهارية لكتابه المذكور، وهي الحملة التي طغت على المشهد الثقافي بوتيرة أكبر من تلك التي ميزت الأيام التي سبقت صدور كتاب ديستان، الذي خيب آمال المراهنين تجاريا على عنوانه المثير الأقرب إلى مفهوم حياة المشاهير أو البيبول، كما يقال في اللغة الإعلامية والفنية التي تميز الصحف الشعبية أو الصفراء.
الأميرة ديانا، رفيقة الفقيد دوديه ابن مالك متجر هارولدز الشهير، هي التي شكلت مبرر الخبطة التجارية التي فشل في تحقيقها أصحاب داري ”دوفالوا” و”اكس أو” الذين راهنوا على عنوان كتاب ديستان المثير”الأميرة والرئيس” من باب الفوز بإقبال محبي ومحبات الأميرة الساحرة التي لاقت حتفها في قلب باريس، إلى جانب عشيقها العربي وباهتمام جزء من الأنتلجسيا اليمينية التي تحفظ الإحترام والود للرئيس ديستان.. وخلافا لكل التوقعات فقد مني فريق الدارين بهزيمة نكراء في سوق الكتاب، بعد أن باعوا 25 ألف نسخة فقط من مجمل 100 ألف طبعت و45 ألف نسخة تم توزيعها على أهم وأشهر المكتبات الباريسية. وهكذا بات معيار المراهنة على قصة العلاقة الغرامية التي تكون قد جمعت الأميرة الراحلة بالرئيس المسن أبعد ما يكون عن مفهوم المغامرة المحسوبة. تعليقا على فشل داري ”دوفالوا” و”إكس او”.. قال بيار فيري نائب مدير دار منشورات ”ميشال لافو” الذي مات من وراء مقود سيارة ”فيقا”، إلى جانب ألبير كامو، يوم الرابع جانفي من عام 1960، قال إن جمهور الكتب لم يعد يقبل بأي شيء وأصبح يطالب بالحقائق في أي مجال، خاصة إذا تعلق الأمر بشخصيات لعبت دورا مهما وتنفرد بكاريزما نادرة، كما هو حال الرئيس شيراك، والإستراتيجية الإشهارية والإعلامية لا تعد دائما خيار صائبا. وأضاف يقول فيري إن كتاب الرئيس شيراك لم يجد الصدى الكبير لأنه تعلق بشخصية محبوبة ومثيرة فقط، بل لأن كتابه حافل بمعلومات كان القراء في حاجة إلى معرفتها بدقة وتشويق بعد أن عرف صراعه مع الرئيس ديستان على نطاقين إعلامي وسياسي واسعين، والنجومية التي يراهن عليها بعض أصحاب دور النشر لا تعني شيئا إذا كانت كتب أصحابها فارغة أمضى، يقول فيري وضرب، مثال رواج كتاب الممثل غير المعروف لورنت دتش، الذي باع 200 ألف نسخة من كتابه ”ميترونوم”، بعد أن تناول تاريخ باريس بشكل جديد لفت به انتباه الآلاف من القراء. من الحقائق التي حفل بها كتاب شيراك وكشفت عن عدة أوجه من صراعه الشهير مع ديستان، تلك الإهانات التي كان يوجهها إليه من منطلق غروره وادعائه بالتفوق الفكري وتعاليه، ولا أدل على ذلك قول شيراك ”فهمت بعد مدة قصيرة من عملي معه بأنه يضع نفسه في أعلى سلم القيم وكل الآخرين يقعون في الأسفل”. جيسكار، وزير المالية الذي أصبح رئيس جمهورية مثل شيراك في وقت لاحق.. أدخل منذ البداية في ذهن سكرتير الدولة للموازنة، شيراك، بأن الفرق شاسع بين المنصبين وحتى يهينه شخصيا فرض عليه الدخول إلى مكتبه من الباب الذي يدخل منه الزوار الظرفيون، ولم يقترح عليه في اجتماع عمل أن يتناول مشروبا ما بعد أن طلب فنجان شاي من المحضر. وحسب شيراك فإن إهانات جيسكار الموجهة إليه تدخل في إطار الحرب النفسية التي خطط لها ديستان بغرض إحباط معنويات عدوه المستقبلي على مستوى الصراع حول الظفر بكرسي الإليزيه. هذا الصراع الذي تناوله الرئيس شيراك، في الجزء الأول من مذكرات كتابه الرائج - حتى ساعة كتابة هذه السطور كما تبين ذلك في صالون كتاب باريس الأخير- تمثل في استحالة التواصل بينه كرئيس وزراء وبين ديستان كرئيس جمهورية، وانسداده نهائيا في نهاية الحقبة الرئاسية بسبب عدم قدرة شيراك على تفهم ردود فعله وسيكولوجتيه على حد تعبيره، ناهيك عن خلافات مبدئية على أكثر من صعيد سياسي أدت إلى التصادم المباشر في نهاية المطاف، بعد أن رفض الرئيس الامتثال إلى تحذير الحيوان السياسي الشرس شيراك الذي ذكر عدوه العاصي بمقولة العرب ”لا يجب تجريح الحيوان.. وعليك الاختيار بين قتله أو ملاطفته” ولا خيار ثالث بين النهجين، خلافا لديستان المتعجرف والمتعالي بشكل وقح. قال شيراك إن خلافاته مع الرئيس ميتران كانت حضارية وإيديولوجية في كنف احترام وإعجاب متبادلين، الأمر الذي ضمن تعايشا نموذجيا استمر حتى النهاية، وفي نظر شيراك.. ميتران كان كائنا فريدا من نوعه بحكم ذكائه الخارق ودهائه وثقافته الأدبية الواسعة وفضوله الفكري العام والحضاري وحسه الفني، وتقاسمهما حبا خاصا حيال الحضارة الآسيوية وتجذره في الهوية الفرنسية والأوروبية. وعلى الرغم من التباين الإيديولوجي الذي يفصلهما اعترف شيراك في كتاب مذكراته بأن سلبيات ميتران المتمثلة في غموض تاريخه النضالي والإيديولوجي وتعقد شخصيته وتصوره الكلاسيكي لتطوير فرنسا على حد تعبيره.. لا تنقص شيئا من اشتراكهما في التشبث بتراث وذاكرة الأرض ومُثل الجمهورية، الأمر الذي ضمن تعايشا سياسيا مثاليا بينهما وميتران يعد في نظر شيراك فنانا سياسيا استنادا لطريقة وعرض أفكاره بذكاء حاد قلما نجده عند رؤساء آخرين. مجلة ”الإكسبرس” التي انفردت بفكرة جمع أشهر الكتاب الذين حضروا الدورة الثلاثين لصالون باريس للكتاب، استضافت الرئيس السابق شيراك لأن كتابه مازال مطلوبا في سوق الكتب في حين لم يعد أحد يتذكر أو يذكر كتاب الرئيس ديستان، الذي فشل في مغازلة ومخادعة القراء بمغامرته العاطفية مع الشقراء الوديعة الراحلة ديانا.