يؤكد صاحب محل تجاري مختص في بيع المواد الغذائية العامة مخرجًا كراسًا من الحجم الكبير امتلأ بالأسماء والأرقام ل “الفجر”، أن: كراس الدّين لديه أضخم مما كان في أي وقت مضى، إذ تنضم إلى قائمة مدينيه، يوميًا أعداد متزايدة من جيرانه وسكان الحي الذي يقطنه في عين مليلة يقول التاجر “الباهي.ج” إن “العديد من زبائني كانوا –فيما مضى-يشترون احتياجاتهم اليومية من المواد الغذائية نقدًا ولا يلجأون إلى الدّين إلا في حالات قليلة ونادرة، أما اليوم، فالجميع يشترون أغراضهم بالكريدي وأنا شخصيًا أستعمل القلم وكراس الدّين أكثر من استلامي للنقود حتى إنه في بعض الأوقات نسيت شكل النقود”. ويعتقد التاجر الباهي أن موجة الغلاء التي تجتاح الجزائر برمّتها أثرت على الكثيرين، بدليل لجوء العديد منهم، بشكل أكبر، إلى الاستدانة للوفاء باحتياجاتهم. ويضيف أن الناس أصبحوا يستدينون لشراء كميات قليلة من احتياجاتهم، “في الماضي كانوا يستدينون عندما يشترون كميات كبيرة أو في المناسبات كالأعراس والأعياد الدينية ولكن هذه الأيام، فالاستدانة عادة شبه يومية” كما يقول الباهي، ويشير إلى أن الاستدانة تشتد وتبلغ ذروتها في أواخر الشهر، خصوصًا بعد منتصفه. صالح الذي كان يقوم بشراء بعض المواد الغذائية من محل التاجر الباهي قال لنا وهو يبتسم: “طبعًا نحن مضطرين للاستدانة، وإن استطعت أشر لي إلى أي واحد من سكان هذه المناطق يكفيه راتبه الشهري، لشراء معظم ما يحتاجه..الحياة في الوقت الحالي أصبحت صعبة جدًا يا بني وربي يستر علينا وعلى جميع المؤمنين”. ويضيف عمي صالح أن تجار التجزئة الذين يتعاملون بكراس الكريدي يربحون زبائن مخلصين ويضمنون دائمًا أن يكون الإقبال عليهم كبيرا ودائما. ولكن التاجر الباهي يعترض على كلام زبونه، مؤكدًا أن استخدام كراس الكريدي بكثرة يضغط على رأسماله ويجبره هو نفسه إلى الاستدانة من تجار الجملة. ولا تقتصر الاستدانة على تجار المواد الغذائية بالتجزئة، بل تنسحب أيضًا على بائعي الخضر والفواكه والصيدليات وحتى الملابس. وحيد.ك، وهو معلم في الطور الابتدائي من أم البواقي، لا تتجاوز رحلته اليومية إلى التسوق محلين تجاريين متجاورين هما محل لبيع مواد غذائية عامة وبائع الخضر والفواكه. يقول الأستاذ وحيد “الحمد لله، كلهم يبيعونني بالكريدي ويصبرون حتى أقبض راتبي الشهري، حتى لو تأخر ذلك إلى ما بعد بداية الشهر أحيانًا. فالشيء الوحيد في وطننا هو أن الناس تحب مساعدة بعضها البعض”. لا تُحرجونا بالقرض حتى لا نحرجكم بالرفض...! لكن “سليمان.س”، صاحب إحدى المحلات التجارية المختصة في بيع المواد الغذائية العامة بالتجزئة في عين البيضاء، تخلى تمامًا عن مبدإ الاستدانة والبيع بالكريدي وعلّق لوحة بادية للعيان وبارزة عند مدخل محله التجاري تقول: “لا تُحرجونا بالقرض حتى لا نحرجكم بالرفض”، وأخرى عليها عبارة “شد مد القرض مات”. ويقول: “كنا نراعي ظروف الناس، ونقبل أن يستدينوا وندوّن ذلك في سجل خاص بالدين، ولكن عندما طالبناهم، فإنهم إما لم يدفعوا، وإما ماطلوا حتى أصابوني بالإرهاق”. ويضيف قائلا: “عندما يريد الاستدانة من محلي يأتي إليّ مبتسمًا ومعتذرًا، ثم عندما يحين موعد الدفع، يمر من أمام المحل دون أن يلقي السلام كالمعتاد وكأننا بين عشية وضحاها أصبحنا أعداء”. ولا تنحصر مشاكل الاستدانة على سجل الدّين بعدم الدفع فقط، بل تتجاوزها إلى عدم اتفاق البائع والمشتري على القائمة التي توضع على عاتق وحساب كل مشتر، فالكثير من أصحاب المحلات التجارية يقولون إن الناس تدّعي أنها لم تشتر عددًا معينًا من الأشياء رغم أنهم اشتروها. وفي الوقت ذاته، يقول مستهلكون إن بعض التجار يضيفون أشياء إلى القائمة بغرض تضخيمها، أحيانًا بالغش، لتحقيق أرباح كبيرة. يقول “السعودي.ش”، سائق عمومي “إن بعض التجار يستغلون زبائن الدّين ويرفعون الأسعار”، ويستطرد: “عندما أضطر إلى الشراء بالدّين أخجل أن أفاوض البائع أو التاجر في السعر، وأنا أدرك تمام الإدراك أنه يرفع السعر لأنني مجبر على الاستدانة وبالتالي يمسكك من يدك التي تؤلمك”. الخبير الاقتصادي، علاوة حوسينات، يفسر اللجوء إلى الاستدانة كون الجزائريين، حسب دراسات أكاديمية حديثة، ينفقون 30 بالمئة أكثر مما يكسبون. ويرى حوسينات أن مبدأ سجل الاستدانة أو”كارني الكريدي” في ولاية أم البواقي متعارف عليه كون الناس تعرف بعضها بشكل أكبر، ولكن في بعض المناطق الجزائرية كالجزائر العاصمة ووهران وعنابة وسطيف الأمر مختلف وليس هناك مجال للاستدانة، لأن هناك محلات وأروقة تجارية وسوبيرات أجنبية لا تتعامل إلا بالنقود ولا تعترف بشيء اسمه الاستدانة. ويضيف الخبير الاقتصادي قائلا “المشكلة في هذه الأساليب أن الناس، في بعض الأحيان، تنفق أكثر من حاجتها، ما يوقعها في اقتراض أكبر وتجعل فرص السداد تتضاءل”. ويستطرد “مداخيل الناس تتآكل بسرعة رهيبة، وإيقاع الحياة العصرية السريع يجعلهم ينفقون بشكل أكبر، وهكذا تخرج الأمور عن السيطرة، خصوصًا في ظل غلاء الأسعار وارتفاع معدل التضخم على المستوى الوطني”. ويتساءل حوسينات “كيف يستطيع المواطن الوفاء باحتياجاته في ظل ارتفاع الأسعار وتآكل المداخيل، فالرواتب الشهرية لغالبية الجزائريين لا تكفي لقضاء أدنى ضروريات المعيشة، وأنا شخصيًا لا أرى عيبًا في إقبال الناس على الاستدانة والاقتراض طالما أن الحكومة الجزائرية هي الأخرى تضطر في بعض الحالات إلى الاستدانة”.