في تونس ثورة، يقول البعض: إنها انتفاضة، وللتقليل من تأثيرها أو مفعولها الثوري يقول: إنها ثورة ياسمين، أو ثورة مخملية كما يقول ثوريو الصالونات المخملية؛ ثورة تطيح بأعتى نظام قمعي شامل سلميا وبأقل الخسائر المادية والبشرية، تطيح به الجماهير من تونس العميقة مدنيا وبدون عنف، تتحول المطالب الشعبية المتجذرة في منشئها من مطالب اجتماعية حادة، الفقر والجوع والبطالة والتهميش والإقصاء والقمع، وبسرعة إلى مطالب سياسية جذرية عالية السقف تتعلق بالحرية والديمقراطية والعدالة في بعد وطني شامل، مطالب شعبية عفوية وإرادية في نفس الوقت، من غير تحريك داخلي ولا خارجي، بل بإرادة وطنية متأصلة بعيدا عن الإيديولوجية والعصب والطوائف. تتحول هذه المطالبة العالية السقف؛ مطالب الحرية والديمقراطية التعددية وقضية مكونات النظام المطاح به الذي كان يقوده الرئيس المخلوع والهارب، إلى مطالب جماعية إجماعية تتردد على كل الألسنة، ألسنة البسطاء من أبناء الشعب، وألسنة الطبقة الوسطى بكل مكوناتها. هذا الإجماع الجماعي الوطني يجعل الرجوع بهذه الثورة الفتية إلى الوراء غير ممكن إذا عرف المشاركون فيها والقائمون عليها كيف يحمونها ويدافعون عنها بنفس الروح والقوة التي بدأت بها، بأن يحموها من التآمر الداخلي، ومحاولات الإجهاض ومن الأصوليين والمتسلقين، وتجار المناسبات واقتناص الفرص، الأعداء الحقيقيين لأية ثورة أو نهضة يراد إجهاضها وإيقافها في الطريق؛ طريق المد التاريخي الطبيعي. الأنظمة العربية الحالية المبنية على القمع وإقصاء الشعوب لا تريد لثورة تونس الفتية بمطالبها العادلة والواضحة أن تنجح لأنها تخلق في نظرها، سابقة، فهي - الأنظمة - قد تجمدت وتكدست؛ سحبت نفسها من حركة التاريخ، فقدت المبادرة. الغرب عموما، وفرنسا التي استعمرت المغرب العربي، لايريد لهذا المغرب أن ينتظم في شكل من الأشكال ويتفق على استراتيجية استقلالية تربط شعوبه، وتسخر موارده البشرية والمادية لصالح تلك الشعوب. الغرب يريده مفككا ضعيفا، خال من عناصر القوة الحقيقية المنافسة، تابعا، خانعا خاضعا لاستراتيجيته الكونية، يرفض أي تحرك حقيقي منسجم خارج هذه الاستراتيجية المهيمنة. الجزائر التي قادت ثورة عظيمة من أجل إنجاز مشروع استقلال تحرري ضد المشروع الاستعماري المهيمن، القديم والحديث، تتابع ما يجري في تونس الشقيقة والجارة. ما يجري هناك من ثورة يعنينا، لأن تونس منا ونحن منها، كجارة وشقيقة أولا. الشعب الجزائري يتابع ما يجري في تونس باهتمام كبير، يتعاطف ويتضامن مع الشعب التونسي الشقيق. فنحن مدينون للشعب التونسي بالكثير. مدينون في ثقافتنا للزيتونة. وكانت تونس القاعدة الخلفية لثورتنا في التنظيم والتدريب. الشعب التونسي اقتسم معنا قوته اليومي. واجبنا اليوم أن نقف بجانبه، ليس بتضامن شكلي وإنما بتضامن فعلي وقوي، سيما في مسعاه لتأمين وترسيخ ثورته، وما يمكن أن يعقبها من تبعات، حمايتها من الضغوط الخارجية التي تحاول كبتها وإجهاضها في مهدها. الثورة في عنفوانها وقوتها يمكن أن يجعلها ذلك تستسلم للعاطفة والخيال، وأن تكون عرضة لبعض نزوات فئة أو فئات من المشاركين فيها تحت دوافع أنانية وأطماع خاصة إذا هي لم تخرج من شروط العفوية والاندفاع وتعمل ضمن الحوار الجماعي المنظم والمنضبط لتحديد مشروع سياسي وطني استراتيجي بعيد المدى، يضمن لها الاستمرارية والديمومة في إطار مبادرة لاستئناف المشروع المغاربي المعطل والمشلول. فالثورة التونسية، كما يفترض فيها ولها، وهي محررة من عقد وكوابح الماضي المغاربي القريب الذي أوصلنا إلى العجز، وأوقف حركة التاريخ ضمن مكوناته المادية والبشرية. الحركات الاستقلالية المغاربية فشلت في بناء هذا الصرح نتيجة حسابات ظرفية وخاصة قصيرة النظر. الثورة التونسية الفتية كحركة تاريخية ديناميكية يمكن أن تبعث الروح في هذا المشروع العظيم وانتشاله من حالة الجمود المكبلة. أية حركة مهمة في أية منطقة من مناطق المغرب العربي إذا لم تنضبط ضمن استراتيجية البناء المغاربي محكوم عليها بالفشل. الأستاذ الجيلالي اليابس قبل أن يغتاله الإرهاب ألقى محاضرة قبل هذا الاغتيال المأساوي حول المشروع المغاربي في مواجهة العولمة، أوجزه في خلاصة مختصرة عميقة الدلالة إذ قال: ”لا مستقبل لهذه المنطقة المغاربية إلا إذا انتظمت في مجموعة منسجمة مترابطة شاملة في أي شكل من الأشكال”، وخلاصة أبلغ وهي ”إن هذا المغرب الكبير لا يمكن أن يبنى إلا على وطنيات كبرى”.