مِنْ هَدْي وسُنن نبينا صلى الله عليه وسلم صلاة الاستخارة، والاستخارة هي طلب الخِيَرة، بأن يطلب المسلم مِنْ ربه سبحانه أن يوفقه لما فيه الخير له في دينه. ودنياه. قال ابن حجر: "الاستخارة: اسم، واستخار اللهَ طلب منه الخِيَرة، والمراد طلب خَيْر الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما". فالإنسان يتعرض في حياته للكثير مِنَ الأمور المجهولة العواقب، لا يدري خيرها مِنْ شَرِّها، ولا نفعها مِنْ ضرها، فيقع في حيرةٍ مِنْ أمره. ومِن ثم شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الاستخارة التي فيها الدعاء العظيم، الذي فيه توحيد الله سبحانه، والإقرار بوجوده وصفاته وكماله، وقدرته وربوبيته، وتفويضِ الأمر إليه، والاستعانة به، والتوكلِ عليه، والتبرؤ مِنَ الحول والقوة، واعتراف العبد بعجزه عن معرفة مصلحته. وصلاة الاستخارة سُنة نبوية بإجماع أهل العلم لمن أراد الإقدام على عملٍ وأمر مباح لا يَعلَم وَجْه الصَّواب فيه، فيستخير المسلمُ اللهَ تعالى في هذا الأمر، ويسأله سبحانه أن يختار له ويوفقه لما فيه الخير له في دينه ودنياه. والاستخارة لا تكون في أمْرٍ واجب أو مندوب، لأن المسلم مأمور بفعلهما شرعًا، ولا تكون كذلك في أمر مُحَرَّم أو مكروه، لأنه مأمور بتركهما شرعًا. ولأهمية الاستخارة في حياة المسلم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه رضوان الله عليهم في أمورهم كلِّها كما يعلمهم السورة مِنَ القرآن الكريم. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّها، كما يُعَلِّمنا السورة مِنَ القُرْآن، يقول: إِذا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْر الفَرِيضة، ثُمَّ لِيَقُل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِك، وأستقذرك بِقُدْرَتِك، وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك العَظِيم، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ ولا أَقْدِر، وَتَعْلَم ولا أَعْلَم، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوب، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَم أَنَّ هذا الأَمْر خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي – أو قال: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِه -، فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيه، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَم أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَة أَمْرِي أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي.. قال: وَيُسَمِّي حَاجَتَه أي: يذكر حاجته عند قوله: قال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "قوله: (أستخيرك): الاستخارة طلب الخير في الشيء، وهي استفعال من الخير، ضد الشر. وقوله: (أستقدرك) أي أطلب منك أن تجعل لي قدرة. وقوله: (فاقْدُرْه) أي اقض به وهيئه. قوله: (مِن غير الفريضة) بعد قوله: (كما يعلمنا السورة من القرآن) يدل على الاعتناء التام البالغ حده بالصلاة والدعاء، وأنهما تلوان للفريضة والقرآن. قوله (بعلمك، وبقدرتك) أي إني أطلب خيرك مستعيناً بعلمك، فإني لا أعلم فيم خيرتي، وأطلب منك القدرة، فإني لا حول لي ولا قوة إلا بك. ثم عم الطلب بقوله: (واقْدُر لي الخير حيث كان) ثم ختم الدعاء بقوله: (ثم أرضني به) ورضي العبد ورضي الرب متلازمان، بل رضي العبد مسبوق برضي الله، ورضوان الله جماع كل الخير، وإن اليسير منه خير من الجِنان وقال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري": "فقه هذا الحديث: أنه يجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله، وصرف أزمتها والتبرؤ مِنَ الحول والقوة إليه، وينبغي له أن لا يروم شيئًا من دقيق الأمور وجليلها، حتى يستخير الله فيه ويسأله أن يحمله فيه على الخير ويصرف عنه الشر، إذعانًا بالافتقار إليه في كل أمر والتزامًا لذلة العبودية له، وتبركًا باتباع سُنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن لشدة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلها كشدّة حاجتهم إلى القراءة في كل الصلوات. لا استخارة في واجب أو حرام، ففِعل الواجبات لا خِيَرة فيه لأن الله عز وجل ألزمنا به، وكذلك ترك المحرَّمات، فالاستخارة إنما تكون في المباحات لترجيح أحَدِ الأمْرينِ على الآخر.. والأمور التي يتعرض لها المسلم تدور على الأحكام الخمسة: الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمحرم. والواجب والمستحب والمكروه والمحرم مِن ناحية الأصل ليست مجالًا للاستخارة لأن الشرع جاء بحكمها. لكن المباحات المجهولة النتائج هذه مجال الاستخارة. وذكر العلماء: أنه إذا ازدحم أحيانا واجبان لا يدري أيهما يقدم يكون هناك مجال الاستخارة، أو تعارض مستحبان ولا بدّ من تقديم واحد منهما فقط ولا يمكن أن تقوم بالأمرين معًا فهذا مجال للاستخارة فتقدم أحد الأمرين وتسميه في دعائك وتستخير عليه. وقد اتفق العلماء على أن الاستخارة لا محل لها في الواجب، والحرام، والمكروه، وإنما تكون في المندوبات والمباحات، والاستخارة في المندوب لا تكون في أصله لأنه مطلوب، وإنما تكون عند التعارض، أي إذا تعارض عنده أمران أيهما يبدأ. استحب بعض العلماء تقديم الاستشارة على الاستخارة، فإذا أراد المسلم أن يُقْدم على أمْرٍ مِنَ الأمور التي لا يعلم وجه الصواب فيها أن يقوم أولًا باستشارة إخوانه، وأهل العلم والدين والخبرة بذلك الشأن، ثم يستخير الله تعالى فيه. قال النووي: "يستحب أن يستشير قبل الاستخارة مَنْ يعلم مِنْ حاله النصيحة، والشفقة، والخبرة، ويثق بدينه، ومعرفته، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر} قال تعالى استشار وظهر أنه مصلحة، استخار الله تعالى في ذلك". والأمر في هذا واسع، فإن قدم الاستشارة على الاستخارة فحسن، وإن قدم الاستخارة أولاً فلا بأس، والمقصود هو الجمع بينهما. قال ابن القيم "وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ما ندم مَنِ استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره". وقال ابن القيم: "فالمقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبله، والرضا بعده، فمن توفيق الله لعبده وإسعاده إياه أن يختار قبل وقوعه، ويرضى بعد وقوعه، ومِنْ خذلانه له ألا يستخيره قبل وقوعه، ولا يرضى به بعد وقوعه. لا يَعْلم الغَيب إلَّا الله، ولا يُقدِّرُ الخيرَ أو الشَّرَّ للعَبدِ سِوى خالِقِه عز وجل، فيَنْبغي على المسلم ألَّا يَقصِدَ شيئًا مِن دَقيق الأمور وجَليلِها حتَّى يَستخير اللهَ تعالى فيه، ويَسأَله أنْ يَحمِله فيه على الخيرِ، ويَصرِف عنه الشَّرّ، إذْعانًا بالافتقارِ إليه في كلّ أمر، والْتزامًا بذِلَّة العُبوديَّة له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة، وقد قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (كان رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّها، كما يُعَلِّمُنا السُّورَة مِنَ القُرْآنِ).. فالاستخارة عبوديةٌ لله تعالى، ودليلٌ على تعلُّق قلب المؤمن بربِّه سبحانه، وتفويض أمره إليه، والرضا بما قسمه له، وهي مَخرجٌ مِن الحيرة ومَدْعاة للطمأنينة، وهي سُنة نبوية.