ما تزال الأزمة السياسية في تونس تلقي بظلالها على تطور الأحداث على الرغم من التحسن الكبير الذي طرأ على الأوضاع الأمنية لاسيما بعد أن وضعت السلطات حدا للعصابات التي كانت ترتكب جرائم القتل والتخريب والنهب واعتقلت العديد من أفراد عائلة الرئيس المخلوع بتهم الفساد والرشوة. إلا أن مستجدات الأزمة التونسية ما انفكت تتطور بشكل ملفت للانتباه إذ أن مطالب الجماهير التي كانت في بداية الامر تنصب على القضاء على البطالة وتوفير مناصب الشغل للعاطلين عن العمل ومواجهة غلاء المعيشة سرعان ما تحولت لتأخذ منعرجا أقوى يتمثل في تنحية الرئيس زين العابدين بن علي وبمجرد مغادرته البلاد والسلطة أخذت المطالب شكلا جديدا يرمي هذه المرة إلى تنحية وزراء النظام القديم وأحداث القطيعة التامة مع مخلفات النظام البائد. وعلى هذا الأساس رفض منصف المرزوقي زعيم حزب "المؤتمر من اجل الجمهورية" (يسار لائكي) أي إجراء يرمي إلى سن العفو وتطبيقه على الأشخاص الذين أثبتت التحقيقات مسؤولياتهم في "إهدار دماء الشباب التونسي ونهب أموال الشعب وممتلكاته" متوجها برسالة الى رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع مفادها الدعوة الى اختيار شخصية وطنية "مستقلة وذات مصداقية" تتولى تشكيل حكومة تمثل كل الأطياف السياسية والحساسيات الفكرية. ومن هذا المنطلق دعا إلى تجند كل القوى الحية في البلاد للحفاظ على مكتسبات "الثورة الشعبية" وتوفير المناخ من اجل دعم الحريات الأساسية وبناء الديمقراطية وسن قانون دستوري "ملائم" ومجلس تأسيسي "يلبي طموحات الشعب" مرددا عبارة "سرقوا الثروة ولن يسرقوا الثورة" ومعربا عن نيته في الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. ولم يكن موقف حزب "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين" مخالفا حيث أعرب الطيب المحسني النائب الأول للامين العام للحركة عن رفضه البات لكل اشكال "الانقلاب على مكاسب الثورة الشعبية" من طرف رموز النظام السابق داعيا الجهات القضائية والحقوقية إلى محاكمة هذه الرموز بسبب "ما ارتكبته من جرائم". ولم يفت حزب "التكتل من اجل العمل والحريات" تاكيد موقفه السابق حيث شدد مصطفى بن جعفر الامين العام لهذه التشكيلة السياسية على قراره بالاستقالة من حكومة الوحدة الوطنية التي عين ضمنها وزيرا للصحة العمومية. وأبرز أن موقفه بمقاطعة الحكومة جاء "تلبية لنداء الشعب" و"استجابة لمطالب الجماهير" مقترحا بعث هيئة وطنية للإصلاح ل"حماية الثورة" والإعداد لبناء تونسالجديدة بمساهمة كل مكونات المجتمع التونسي دون إقصاء حتى "لا تحيد" هذه الثورة الشعبية عن مسارها الصحيح. ويرى مصطفى بن جعفر أن إجراءات العفو الشامل وتشكيل لجان الإصلاح والنظر في التجاوزات والفساد وفصل الدولة عن الأحزاب أن كانت كلها إجراءات تبعث على الارتياح وتعد جد ايجابية فان الدعوة الى تنحية رموز النظام القديم من الحكومة الائتلافية تبقى قائمة بكل إلحاح وإصرار مطالبا بتشكيل حكومة تضم شخصيات مستقلة لم تتحمل أي مسؤوليات في السابق. وإذ عبر عن استعداده للمساهمة في الانتخابات الديمقراطية المرتقبة لفت إلى أهمية التأسيس ل"مجتمع المواطنة" بعيدا عن الإقصاء والتهميش موضحا ان حزبه بصدد صياغة مشروع برنامج يقوم على أساس المبادئ الوطنية والهوية العربية الإسلامية ويؤسس للقضاء على الفوارق الجهوية وإرساء تنمية جهوية عادلة في ظل احترام الحريات والتطلعات الاجتماعية بما يضمن تكريس مبدأ "المواطنة الحقة". إلا ان وزير التنمية المحلية التونسي ومؤسس الحزب "الديمقراطي التقدمي" المعارض نجيب الشابي فقد جدد موقفه المدعم للحكومة الانتقالية اذ يرى ان الجهاز التنفيذي الحالي قادر على الصمود أمام الوضع المتوتر في البلاد و تحقيق النجاح في مسيرته المستقبلية. وأوضح أن الحكومة تضم كافة أطياف الشعب التونسي من أعضاء الحزب الحاكم السابق وبعض الشخصيات المستقلة إلى جانب بعض أعضاء المعارضة الامر الذي يوفر لها كل فرص النجاح على حد تعبيره. ولدى تعليقه على ارادة الشعب التونسي في احداث القطيعة مع كل مخلفات الماضي اصر نجيب الشابي على ان الشخصيات الموجودة في حكومة الوحدة المشكلة حاليا ليست موالية للرئيس بن علي. وأشار إلى أن القرارات السياسية التي كانت تتخذ إبان فترة حكم بن علي كانت في يده وحده وفي يد النخبة المقربة منه بينما أعضاء الحكومة الجديدة من حزب بن علي لم يتورطوا ابدا في عمليات الفساد ولديهم رغبة كبيرة في اصلاح النظام القائم بالبلاد وحول تولي رئيس الوزراء محمد الغنوشي لرئاسة الحكومة الجديدة بالرغم من انه ظل ملازما للرئيس بن علي لما يزيد عن 11 عاما اعرب الشابي عن تحديه لاي كان ان يكون الغنوشي قد تميز في يوم من الايام بالفساد او تورط في "عمليات القمع أو الاضطهاد". لكن موقف احمد المستيري الأمين العام الأسبق ومؤسس "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين" كان جد مغاير اذ يرى ان تركيبة الحكومة الجديدة تعد "انتهاكا صارخا لإرادة الشعب التونسي وللمكاسب المشروعة التي حققها خلال الفترة الأخيرة" داعيا إلى رفض هذه التركيبة منتقدا انضمام أطرف من المعارضة لهذه التشكيلة الحكومة. وبدوره دعا محمد المصمودي الوزير التونسي الأسبق للشؤون الخارجية إلى أن يستمد الذين يقودون البلاد "شرعيتهم من ثورة الشعب" معربا عن تخوفه من انتشار الفوضى واهتزاز الأمن والاستقرار لتحل محله سلوكات الانتقام والأخذ بالثار وتصفية الحسابات. وحث الدولة على إرساء قواعد السلطة وتوفير الإطار الملائم الذي يسمح بإقامة الحوار وتفعيل "النقد البناء والمسؤول" لإرساء الديمقراطية "دون تنازلات أو انحراف" عن مسار هذه الثورة.