يقول الأمير عبد القادر في الموقف السادس: "الحق يقول: أنا. والعبد لجهله يقول أنا. والعبد يقول: هو لشهوده البعد من ربه. فلما تنفس صبح العناية وأشرقت الجهات الست والحواس الخمس. بإشراق الشمس التَبَسَ أنا بأنا من غير اتحاد ولا حلول، فالكل في توحيدنا معزول؛ فليس عندنا إلا وجود واحد. فعلى أهل الحجاب والغفلة أن لا يكدّروا صفوفنا، بجعجعتِهِم ولا يروّعوننا بمعمعتهم". ويقول ابن عربي :"الحق هو وحده الموجود وباقي الموجودات ظل له؛ فلا وجود لها على التحقيق". والتحقيق يؤكد على تقاطع الرجلين في أكثر من موقف وأكثر من فتح.. ولعل أكبر تقاطع بينهما هو ذلك الجوار الأبدي في قاسيون بسوريا رغم إظهار رفات الأمير سنة 1966 والعودة به إلى الجزائر. في هذا العدد المتجدّد من "الفجر الثقافي"، نحاول أن نجمع الفتوحات بالمواقف.. وأن تقرأ بن عربي من خلال الأمير.. فهل العلاقات بين المتصوّفة علاقات برزخية تتعدى فهمنا الضيق للتأثيرات الفكرية وتتجاوزها إلى التقاطعات الروحية..؟؟ من الذي أوصل الأمير إلى بن عربي؟ الشيخ الأكبر وخاتم الأولياء في التصور الصوفي؟؟ هاجر قويدري "الأمير فتح ما استغلق من فتوحات بن عربي" الدكتور بوزيد بومدين يمكن رصد علاقة الأمير عبد القادر الحسني ومحي الدين بن عربي في ثلاث نقاط أساسية، يمكننا من خلالها فهم التقارب البرزخي المذهل بين الرجلين: 1 - علاقة الطريقة والتربية: يمكن تحديدها بفترة نشوء الأمير في ظل زاوية والده بالقيطنة، وكذا رحلاته مع والده إلى المشرق والحجاز وهو صغير السن من جهة، ومن جهة أخرى علينا أن نعرف أن جده مصطفى الحسني قد لعب دورا هاما في نشر الطريقة القادرية بالمغرب العربي، إذ أن شعيب أبي مدين الغوث هو الذي أدخل هذه الطريقة إلى المغرب في القرن الثاني عشر ميلادي قادما بها مباشرة من شيخ القادرية الأول عبد القادر الجيلاني، وذات الطريقة تأثر بها محي الدين بن عربي وعليه ورد الأمير وتربيته الروحية هي عودة نحو صاحب الكبريت الأحمر، علما أن الأمير قد زار ضريح عبد القادر الجيلاني.. فهي إذن علاقة صوفية عرفانية مع الشيخ محي الدين، كما أن بعض مشايخ زاوية أبيه كانوا يتناولون بالدراسة بعض نصوص بن عربي، وعلى الخصوص كتابه "فصوص الحكم"، وقد بدأ في التعرف على هذه المخطوطات مبكراً.. الأمير كان متأثراً أيضا في هذه المرحلة بالإمام الغزالي ولم يكن الأمير قد نهل بعد من الفتوحات المكية، حيث نلاحظ في نصيّ الأمير الموسومين ب"المقراض الجاد" و"تنبيه الغافل" حضور التصوف الزهدي الذي يهتم بالسلوك دون الاهتمام بالتصوف العرفاني الذي يتحدث عن المجاهدة والكشف، ويعود ذلك إلى كون الأسرار لا تقال لعامة الناس والكتابان موجهان للخاصة والعامة. 2 - الهجرة واكتشاف معنى الحقيقة المحمدية: تشكلت ملامح هذه المرحلة في الشام أين تفطن الأمير إلى ضرورة إظهار أو تخقيق كتاب الفتوحات المكية لشيخه البرزخي، فأرسل بعض مريديه إلى مدينة قونية بتركيا لاستقدام كتاب الفتوحات المكية وقابلها بالنصوص التي لديه.. فكانت الفتوحات المكية في حد ذاتها فتحا للأمير وإعادة اكتشاف روحانيته. هذا من جهة ومن جهة أخرى عايش كل منهما الأمير وبن عربي محنة الهجرة وظلم وجحود أهل الظاهر.. فجاهد ذلك بالخلوة التي صارت فضاء للمعنى.. للمجاهدة.. والمشاهدة، وهنا كتب المواقف، معتمدا في ذلك على نهج الفتوحات، وتواضعا منه واستصغارا لشأنه أمام شيخه.. أقر بالموقف الذي هو عتبة نحو الفتح وقال: "إنني فقط افتح ما استغلق من الفتوحات، وأسهل على الموردين والعارفين ما استعصى عليهم من نهايات محي الدين بن عربي. إن المواقف هي النهايات.. هي التربية الروحية للتدرج في المقامات..". 3 - السكر والإتحاد: في هذه المرحلة الأخيرة التي تربط الأمير عبد القادر بمعلمه وشيخه البرزخي، تبرز علاقة السكر والاتحاد التي وصل فيها الأمير إلى درجة لم يستطع أن يفضل ذاته وروحه عن ذات وروح كل من الرسول صلى الله عليه وسلم.. والشيخ الأكبر بن عربي.. في هذه المرحلة لقد عاش الأمير سكرا حقيقا، وكان يغمى عليه فيعاد إنزال القرآن الكريم من جديد ويقول في هذا الموقف.."كأنما أنزلت عليّ الآية الفلانية والآية الفلانية من جديد.."، وهنا كان يملي الأمير تفسيره الإشاري على تلاميذه المقربين، وهو في حالة غياب تام ففي هذه اللحظة يتزاوج ويتداخل النصيين نص الأمير ونص محي الدين. ونقصد طبعا الفتوحات والمواقف، فلم يكن دفنه إلى جانب ضريح شيخه البرزخي إلا تجسيدا مادي لموت سابق تم في الخلوة وفي المعنى وفي فضاء الاستشهاد الصوفي. "المرجعيات الأكبرية لفكر الأمير عبد القادر الصوفي" الدكتور ياسين بن عبيد نشير المصادر بإجماعٍ إلى المرجعية الأكبرية لفكر الأمير عبد القادر الصوفي، وليست المسألة مجرد افتراض تابع فيه المتعجلون أطروحات المستشرقين، ولا هي تخمين أسلم إلى حكم يعوزه الفحص الدقيق والنظر السديد. يدهشني أن أقرأ في بعض الكتابات غير المختصة تصنيفاً للأمير يدرجه في مخطط استشراقي يراد به إعادة الاعتبار لابن عربي الحاتمي، مع استغلال أمرين: الأول إحالات لافتة للأمير في أكثر مدونته شيوعا - المواقف - إلى الشيخ الأكبر مفادها أنه معلمه الأول وملهمه الأكبر وما إلى هذا، والثاني توارد الأمير على معجم ابن عربي واستغلاله إياه بما يؤكد سلطانه عليه. فقبل التحليل ينبغي الإشارة إلى أن ابن عربي لم يفقد يوما اعتباره حتى يعاد له بطريق أو بأخر، وإنما الذي حصل له من معارضة الدوائر الفقهية والسياسية حصل مع كل كبار الإنسانية، في كل الثقافات والحضارات بحيث لم تزده المعارضة إلا شهرة وانتشارا، وكان فكره في النهاية أكبر مستفيد، لأن الاعتراضات عليه لفتت إليه الخصوم ومن كان بينهما متأرجحا لم يهتد قلبها إلى صواب. ثم إن الفكر الأكبري كان في كل فرص استدعائه فكرا يطرح بحدة مشكلة الحداثة الفكرية وما تعنيه من حق في الاختلاف ومن قدرة على التجديد ومن هنا إهابة كبراء زمانهم، في كل أطوار تاريخنا الفكري والثقافي والروحي بمعجمه وبمعالجته. هذا الذي يفسر استئناف الأمير عبد القادر للتناول الأكبري لدى متأخري متصوفة الإسلام، وحتى لدى معاصريه من أمثال عبد الكريم الجيلي صاحب "الإنسان الكامل"، فهو استئناف يؤكد حيوية الطرح الأكبري واستدامته، بما يعني صلاحيته لزمانه ولغير زمانه، كما يعني قدرة الأمير على التفاعل مع أطروحة وقف كثير من الناس عاجزين أمامها. وغير صحيح أن الدعوة إلى "إحياء" الأكبرية إنجاز استشراقي، "إحياء الحي إسهام في موته" بل كل ما في الأمر أن الحفر في الروحانيات الشرقية على وجه الخصوص وَجَه الباحثين إلى ابن عربي بوصفه إحدى أهم محطاتها في كل تاريخها الطويل، وصادف ذلك عطشا غريبا إلى الروحانية وإلى الرجوع إلى الدين، فكانت أغلب المساءلات الميتافيزقية تجد لها أجوبة في فكر بن عربي، ثم أن التصوف المقارن أثبت تأثيرات ابن عربي لا على الشرقيين وحدهم، بل على جماعة كبيرة من الغربيين.. من ريمون دي لول إلى رينيه غينون إلى تيتوس بيركهارت إلى شارل أندريه جليس إلى ميشيل شودكيفيتش، إلى كلود أداس.. كل هؤلاء الذين توجهوا إليه بوصفه عنوانا على حقيقة غيبتها منظوماتهم الفكرية وإيديولوجياتهم وتوجهات حضارتهم المادية. قام اتكاء الأمير على التجربة الأكبرية بطبيعة الحال على أصول ومناهج مكنت من حسن الاستفادة منها، يمكن إدراج فكرة الانطلاق من التجربة الروحية بأساسها الرياضي ومفهومها العملي ضمن ذلك، الأمر الذي أعطى مصداقية لخطاب الأمير الصوفي من جهة ومن جهة ثانية مكنه من مفاتيح المدونة الأكبرية الخاصة والصوفية عامة،، ومن هنا انفتاح الأمير على هذي من أسلوب ابن عربي التأويلي على مجال للنظر لا يرسو على آفاقه البعيدة إلا مفتوح عليه كما يقول المتصوفة. "فيوضات عبد القادر وفتوحات محي الدين" الدكتور عمار يزلي من الصعب بمكان أن نتحدث عن علاقة الأمير عبد القادر بالتصوف، وبالذات عن علاقته بشيخه الأكبر محي الدين بن عربي، فالأمير عبد القادر وجه متعدد التقاسيم والتخصصات والميولات والأعمال والإنجازات، ولا يمكن أن نختزل الرجل في التصوف ولا في الأدب والشعر ولا حتى في الجهاد الوطني! ولا في الجوانب الإنسانية عنده! فهو يمثل كل هذه الأشياء وأكثر دفعة واحدة! غير أنه من باب التلخيص والتحديد بالتحديد، يمكن أن نتحدث بوجه خاص عن مسألة التصوف النظري والعملي بشكل عام عند الأمير عبد القادر وعلاقة هذه الأمر بتصوف الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي.. - أولا، يمكن التنويه في البدء أن التصوف في المغرب العربي كان قد بدأ منذ أزيد من أربعة قرون خلت!..ونقصد به هنا ما يسمى عادة بالتصوف النظري أو "التصوف الفلسفي".. المرتبط أساسا بالحركة الفكرية والثقافية والعلمية النقلية والعقلية وأيضا الذوقية (العلم والمعرفة.. أو العرفان كما يسمى عند أخوتنا الشيعة).. وأن الأمير عبد القادر، كغيره من مثقفي وعلماء عصره، لم يكونوا يخرجون عن دائرة "الإسلام التصوفي" الأصيل! أي التصوف في معناه التوحيدي والإيماني والممارساتي على طريقة السلف الصالح.. ومن بينهم الخلفاء الراشدون والصحابة الأوائل والتابعين وتابع التابعين..! وكان التصوف يعني: الزهد في الحياة الدنيا الذي يعني نبذ الترف وطلب الشرف! أو كما يعرفه الصوفية ومنهم الشيخ محي الدين بن عربي، بأن الزهد هو"أن لا تأسى على ما فات وأن لا تفرح بما هو آت"!.. وهذا يعني"المجاهدة"! مجاهدة المادياتية البشرية لحساب ارتقاء روحي! الأمير عبد القادر، لم يكن يشذ عن قاعدة أن كل المسلمين في بلاد المغرب العربي (والجزائر خاصة) كانوا منضوين تحت لواء طريقة صوفية من الطرق، إن لم يكونوا أتباعا عضويين من مريدين وسالكين أو خداما، فأتباع ومحبين ومنتمين غير عضويين! هكذا كان الحال أيام الأمير عبد القادر! - ثانيا: التصوف ليس تحزبا ضيقا كما يعتقد البعض أو كما روجت له الكتابات والبحوث الفرنسية أساسا، بأن سمت الطرق الصوفية "أحزابا دينية"!، ذلك أن الانتماء إلى مشيخة أو طريقة معينة، لا يعني معاداة أو منافسة أو خصومة مع الطريقة الأخرى! (لكن هذا ما حاولت فرنسا أن تقوم به من عمل تسميمي بذهنية تأليب الصراع والنزاع بين الجزائريين على أسس عرقية وانتماءات حزبية "طرقية".. وقد أفلت إلى حد ما في ذلك!)، لذا نجد الأمير يمر بثلاثة مراحل في تصوفه: المرحلة الأولى، والتي جاءت بعد زيارته للشام مع والده الشيخ محي الدين (الذي لم يكن هو الآخر بعيدا عن التصوف بل أن أباه هو الآخر كان كذلك.. وغير مستبعد أن يكون تسمية ابنه محي الدين، تيمنا بالشيخ الأكبر، كما كانت تسمية محي الدين لابنه عبد القادر تيمنا بالشيخ عبد القادر الجيلاني). في الشام، تلقى السبحة والشرب على يد الشيخ خالد النقشبندي! وبالتالي، يمكن القول إن الأمير بدأ نقشبنديا! ثم تلقى الطريقة القادرية في بغداد أيام حجه التاريخي المكملة بزيارة ضريح المولى عيد القادر الجيلاني ببغداد حيث "لبس الخرقة".. ليصبح قادريا!. ويبدو أن الطريقتين هما من غذتنا النزعة الجهادية عنده!. المرحلة الثانية، بدأت في خلوته أيام المنفى والأسر في أمبواز! (وكتابه "المواقف الروحية والفيوضات السبوحية " هو عنوان لتلك التجربة).. أما المرحلة الثالثة، فتتمثل في الصفاء الروحي والمحاورة والفيض الروحي (التي تذكرنا ،بل لعلها ألهمته تجربة "الفتوحات المكية" للشيخ محي الدين بن عربي)، الذي غمره من خلال الخلوة المكية وتلقيه السبحة والسر الصوفي الشاذلي على يد شيخه محمد الفاسي الذي التقاه بمكةالمكرمة (يمكن أن نضيف إلى ذلك، دون أن نتأكد من ذلك، احتمال تعاطيه مع الطريقة السنوسية في سنواته الأخيرة في المنفى بفرنسا، حسب قول "تشرشل" في كتابه "حياة الأمير عبد القادر" والتي يمكن ألا تتعدى الإعجاب بإنجازاتها الجهادية الوطنية في الشرق المغاربي والجزائري!).. من هنا، يتأكد لنا أن التصوف..على الأقل عند الأمير عبد القادر، لم يكن يعني التحزب الضيق..ذلك أن معنى الطريقة..هي المدرسة والطريق المؤدي إلى "الله".. ومادام أن كل الطرق تؤدي إلى الله، فطل الطرق (الصوفية) موحدة الهدف، مختلفة الوسائل! يبدو من خلال كتابات الأمير عبد القادر، على الأقل التصوفية منها، (رسالة في شرح سورة التكوير/ رسالة في الحقائق الغيبية، وكتاب "إجابات الأمير عبد القادر" الذي ضم ردود الأمير على بعض الأسئلة التي تلقاها عن مواضيع في التصوف، ثم كتابه الأهم "المواقف الروحية والفيوضات السبوحية"، أن لغته هي ذات لغة محي الدين بن عربي، وأن باد فيها متأثرا بأسلوبه، بل حتى في تجربته (ولو أننا لا نعلم منه كثيرا عن تفاصيل الفيوضات والفتوحات التي حدثت معه ولا ظروفها، على عكس محي الدين بن عربي الذي بدا واضحا لنا اليوم.. وهذا من خلال بحث خاص بنا، معد للنشر لاحقا، أن الرجل قد حدث معه ما يسمى حاليا في "علوم الثيوصوفية" بظاهرة "تجربة الاقتراب من الموت" (NDE)،(Near death experience) وما حدث معه من ظاهرة موازية لعملية الأولى والتي تسمى حاليا بتجربة الخروج من الجسد (OBE).(Out of body experience). فعملية الحصول على الفيض، لدى الأمير عبد القادر، وإن كنا لا ندرك تفاصيل أسبابها وظروفها الأنثروبولوجية، إلا أنه يمكن بسهولة أن نقول إن المراحل الأولى من حياته الأولى كانت تجربة وضعية، أو دعنا نسميها "نظرية ظاهراتية"! غير أنه من المؤكد أنه دخل التجربة العملية بداية من تجربة السجن والمنفى في أمبواز واكتملت ملامحها في مكةالمكرمة! أما مسألة الفيض، فبادية من خلال أشعاره وكتابتها في "المواقف" أنه دخل تجربتها في أواخر حياته، وهي صورة من صور وصف الشيخ الأكبر لها! هي تجربة ذوقية رفيعة، شفافة، لا يمكن أن يصفها أحد بمغير "المحبة" أو "العشق" أن الهيام في المحبوب! أو السكر، كما هي عادة وصف الصوفية للتجربة الذوقية هذه! فهو يصرح قائلا:".. وبعد يوم، أخذني الحق عن نفسي كالعادة..فسمعت قائلا يقول لي "أنظر ما أكننته حتى كنته"..إلخ (المواقف:ج 1/دار الكتب العلمية / بيروت/2004/ص:59).. وهذا في معرض روايته للرؤيا التي ألهمته تفسير الآية "وأما بنعمة ربك فحدث" وتفسير بعض الآيات (والتي سماها "المواقف") لدى الأمير، نجدها تنتهج نفس المنهج "الباطني" عن الشيخ الأكبر..حتى في الفقه! فهو يقول ما قاله الأولون عن القرآن الكريم: (ابن حبان في صحيحه) "للقرآن ظهر وبطن وحد مطلع".. فهو ينهج نفس المنهج! وهذا النهج إنما يقول عنه منسوب! إي أنه ليس من ذاته وإنما من فيض سماوي مملى عليه! (انكشاف الحجاب)..! نجد محي الدين بن عربي يقول أن كل ما كتبه هو من إملاء رسول الله (ص)..عليه!. تجربتان مختلفتان لكنها تلتقيان في نفس النهج.. الذي هو النهج العرفاني.. الباطني! الذي يعني "المعرفة" وليس "الشرع"! كما يرى ذلك أهل هذا المدرسة..! "النشأة الصوفية الحقّ هي نشأة التسامح التي تقرّها وحدة الوجود" الدكتور واسيني لعرج لابد أن ندرك أولا أن الأمير هو صاحب طريقة.. وهي الطريقة القادرية التي نشأ عليها في زاوية والده الموجودة في معسكر، وبالتالي فهو صاحب نشأة صوفية ساهمت بدورها في بروز الجانب الثوري لأن النشأة الصوفية هي نشأة على حق.. والجهاد هو أحد أسباب العودة إلى الحق.. لان الاستعمار ظالم والحق لابد أن يرجع إلى أصحابه.. وأن الحق لابد أن يستقيم.. وبالتالي هذا هو الأساس الذي ترتكز عليه شخصية الأمير الثورية من منطلقها الصوفي الحق.. وهذه صوفية ايجابية جداً.. بالإضافة طبعاً إلى عقيدته بوحدة الوجود.. كما أنه انفتح على كافة العناصر الضرورية لخلق شخصية كتبت مواقفها فيما بعد على ركائز قوية فمكتبة والده كانت تضم مخطوطات للزمخشري وأجزاء من كتابات بن خلدون إضافة إلى الأحاديث النبوية وكذا مجموعة من المخطوطات التي حرص والده على جمعها وجعلها في متناول يد الأمير.. وعندما سقطت الزمالة في يد ملك فرنسا الدوق دومال.. عرضت هذه المخطوطات وبعض مقتنيات الأمير الخاصة قبل سنوات في متحف شايو بفرنسا وقد رأيت كل ذلك بنفسي. إذن كل هذا هي الثقافة الفاعلة في تغذية المنحى الصوفي لدى الأمير كما أنه رافق والده للحج، وكذا ضريح عبد القادر الجيلاني وعاد حتما بمادة أخرى من هناك طعم بها رصيده الثقافي.. لندرك أيضا أنه وعلى مدى 17 سنة كان منشغلا تماما بالجهاد، حيث كان يقول لملك المغرب مولاي عبد الرحمان الذي كانت تجمعه به اتفاقيات: "ابعث من ينوب عني أريد أن أرجع إلى كتبي..". وبعد سقوط الزمالة.. وسجن أمبواز وعلاقته بنابليون الثالث الذي فك عنه سجنه وقدر مرتبته بفضل تدخل قس الجزائر مونسنيور ديبوش، الذي كانت تربطه به علاقة روحية جميلة تنم عن روح تسامح عالية وثقافة تعايش كانت فريدة من نوعها في ذلك الزمان. ثم سافر إلى تركيا فدمشق التي ستلعب دوراً مهماً في جانب الأمير الروحي.. كما أنه اعتكف في غار حراء حتى ظن أهله انه هالك.. وأول شيء قام به بعد تظافر كل هذه المعطيات هو تكوين نخبة من المهتمين وأرسلهم إلى قونية على نفقته الشخصية من أجل استقدام مخطوط الفتوحات المكية لابن عربي، كل المخطوطات الخاصة بالفتوحات كانت ناقصة في ذلك الوقت.. وهو الذي كوّن الفتوحات المكية الكلية.. والدليل في هذا أننا نجد عبارة طبع على نفقة عبد القادر الحسني في كل الطبعات الأولى للفتوحات.. التأثير القوي إذن وواضح بينهما. وفي اللقاءات الدينية التي كان يقوم بها في المسجد الأموي مساء كل سبت، كان يشرح الفتوحات ودائما يذكر بن عربي في مجالسه تلك التي يعني توقيتها "يوم السبت" نزعة التسامح في النشاط، لأن السبت هو يوم لليهود. فأخرج كتاب المواقف في ثلاثة أجزاء.. ونهج نهج بن عربي في التبويب.. والكتابة والاستدلال وتأثر به بشكل كبير.. ووصلت قوة التأثير إلى كونه تلك وصية وقال:" إذا مت ادفنوني إلى جانب شيخي الأكبر"، وفي سوريا اليوم لايزال قبر الأمير على حاله رغم أنه فارع.. فهم لم يهدموه بل حافظوا عليه وهو مزار مُهاب..! "الفجر الثقافي" يزور قبر الأمير عبد القادر بالعالية قامت "الفجر"، يوم الجمعة الماضي، بزيارة لقبر الأمير عبد القادر حتى لا نقول ضريح مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، المتواجد بمقبرة العاليةبالجزائر العاصمة، وتحديداً بمربع الشهداء .A ولعل الكثير من الجيل الجديد يجهل عودة رفاته عام 1966 من ضريحه بحبل قيسون بالصالحية إلى جانب الشيخ الأكبر بن عربي في سوريا. القبر الذي يتوسط مربع الشهداء A إلى جانب 22 شخصية ثورية. عند المدخل الرئيسي لمقبرة العالية بالعاصمة يوجد مربع الشهداء.. المربع الذي يضم رفات رموز الدولة الجزائرية، وهو في الحقيقة عبارة عن مربعين.. المربع الأول، وكما يسميه القائم على إدارة المقبرة "المربع A" يضم 23 شخصية ثورية وقيادية هما بالترتيب:"محمد بوضياف، هواري بومدين، الأمير عبد القادر، عبان رمضان، ديدوش مراد، كريم بلقاسم، بولصوف عبد الحفيظ، العقيد عميروش، العقيد سي الحواس، محمد الصديق بن يحي، محمد الشريف مساعدية، محمد زعموم، محمد شعباني، محمد عواشرية، أحمد نواورة، محمد عموري، علي ملاح، مختار باجي، لالا فاطمة نسومر، العقيد أوعمران، عباس لغرور، رابح بيطاط، لخضر بن طوبال. أما المربع الثاني B فهو خاص بالشخصيات الوزارية والثقافية على غرار طاهر وطار، الذي ترحمت "الفجر" أيضا على ثراه. المربع الأول مغلق بالأقفال ولا يمكن للعامة الدخول إليه إلا إذا كانوا من أقرباء الفقيد، وبالطبع عليهم المرور بإدارة المقبرة وبعون الأمن الذي يحمل المفاتيح، الأمر الذي يجعلنا نتساءل لماذا تغلق الجزائر على رموزها، لاسيما أن ديوان العرب يذكرنا بالبيت التالي: ارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فذكر المرء عمر ثان.