كان الرجل الجالس أمامي سمينا، ذا لحية خفيفة وعينين زرقاوين برّاقتين ك"لقّاطتين" من تلك "اللقّطات" التي كنا نعلب بها ونحن صغار. كنت ولازلت أعتقد دوما أن بريق العيون يحمل في شعاعه مقدار ذكاء الرجل أو المرأة، وإن كانت كاتبتي قد فاجأتني العام الماضي حين أهديتها مجلة روسية مصور عليها وجه ممثل كهل، قلت:"انظري إلى بريق عيون هذا الرجل، ألا ترين أنهما تشعان ذكاء؟" فقالت ضاحكة:"كلا، إنهما تشعان فحولة!". طلبت قهوة، فقام الرجل ورجاني، بلغته الفرنسية المتذبذبة، أن أضعها على حسابه، حاولت رفض ذلك، غير أنه ألحّ حتى خجلت فقبلت، ثم قال متلعثما: أراك غريبا، من أي بلد أنت؟ قلت والابتسامة تعلو شفتي - من الجزائر. - من الجزائر؟ تساءل الرجل كالمشدوه وراح يقول: - بلد بن بلة وبومدين ومصالي! تفاجأت وردّدت عليه ببلاهة: - أتعرف أهل الجزائر؟ قال بجدية وقد غادرت الابتسامة شفتيه: - وكيف لا، كنا في "حزب الخضر" أولى مناصري الثورة الجزائرية، كان عمري سنة 1960 ستة عشر عاما.. أذكر أنني حملت باقة ورد لأحد قادة الحكومة الجزائرية المؤقتة.. ثم أطرق وراح يرمرم شيئا بالألمانية.. أخيرا قال بفرنسيته ذات اللثغة الصبيانية: - أه، تذكّرته.. إنه سعد.. سعد وأنقذته مبتسما: سعد دحلب، أليس كذلك؟ راح يشكرني كأنني أنقذته من ورطة حقيقية:"شكرا.. شكرا، أجل إنه سعد دحلب! ثم حكى لي وولف هنريش (هذا اسمه) حبه المبكر للجزائر وثورتها. كان أبوه شيوعيا فعانى من بطش سرايا هتلر بمجرد نجاح الحزب النازي في انتخابات 1933 التي رأت "الفوهرر" يعتلي سدّة الحكم في ألمانيا، بل إنه غيّب في السجون من 1936 إلى 1939، تاريخ إطلاق سراحه وتجنيده في "صفوف الإطعام" التابعة لقيادة "حرس برلين" إبّان الحرب العالمية الثانية. كان غانتر هنريش والد وولف الجالس قبالتي رجلا "مشكوكا فيه"، لا يصلح للحرب في رأي النازيين، تعلم وولف من أبيه حب الحرية والعدالة والديمقراطية، وبمجرد بلوغه سن الثانية عشر (1957) انخرط بإلحاح من أبيه في "حزب الخضر"، أقوى حزب بيئي في ألمانيا وأوروبا بأسرها بل في العالم كافة. في سنة 1959، كتب وولف هنريش أولى قصائده، غير أنه ورغم امتلاكه اليوم (1984) لما يعادل ديوانين من 150 صفحة للواحد، لم ينشر سوى بعض القصائد في المجلات الشبانية. تحادثنا طويلا في الشعر والأدب، اندهش لقراءاتي أعمال أغلب الكتّاب الألمان المشهورين من غوته إلى غانتر غراس ومرورا بهنريش بول وإيك فان ماريار وماركي، ثم اعتذر لي لأنه لم يكن قد قرأ سوى رواية "نجمة" لكاتب ياسين. قلت:"لا عليك، أنا أعرف أن ترجمة الألمان للأدب الجزائري شحيحة". قضيت رفقة وولف هنريش قرابة الساعة ثم اعتذر لي وقام ليبعث برسالة إلى ابنته في ميونيخ. فيما بعد تراسلت مع وولف لعدة سنوات، كان يقول لي إنه يستعين كثيرا بالقاموس ليجد الكلمات الفرنسية، لكن رسائله كانت صادقة وفوّاحة، بروائح ورود ميونيخ. في سنة 1997 ردّت علي ابنته:"لقد توفي في فبراير من ذلك العام". رحم الله وولف الذي بكيته لشهور. ذكراه لا تزال محفورة في قلبي.