أمطرت وسائل الإعلام والعناوين الصحفية السيدين راشد الغنوشي في تونس وعبد الإله بن كيران في المغرب، بعد تصدّر حركتهما الترتيب الأول في الانتخابات، بوابل من الأسئلة دارت كلها حول الحريات الشخصية للناس.. ما مصيرها بوصول الإسلاميين إلى سدة الحكم؟ وكان جواب الرجلين واحدا : أولوياتنا هي التنمية وحماية الحريات ومكافحة الفقر والبطالة والفساد، وأن زمن احتكار السلطة والمال قد ولى إلى غير رجعة، ولابد من شراكة سياسية مع الفائزين، ولابد من إشراك الأقليات للتعاون على إخراج البلد من التخلف والتبعية، وطمأنة الناس على شؤونهم الخاصة، فالمعركة ليست موجهة ضد "خصوصيات الناس" وإنما هي معركة ضد ما يتهدد المجتمع كله من امتهان للكرامة ومصادرة للحقوق ومن تضييق على الحريات والإبقاء على التبعية. هكذا كانت الرسائل الأولى الصادرة عن الإسلاميين الذين زكاهم الشعب موجهة للنهوض بالمجتمع والتصدي لجميع أشكال التخلف وجعل الحريات والتنمية أولوية الأولويات. ثم استتبع الرجلان هذه التصريحات بإجراءات عملية تمثلت في عقد التحالفات الحقيقية التي تتقاسم الأعباء الوطنية الموزعة على مؤسسات الدولة بما يتكافأ وقدرات كل لون سياسي (الرئاسة، الحكومة، البرلمان) وينطلق الجميع إلى العمل الميداني. فما هي الديمقراطية إن لم تكن انتخابات شفافة وخطابا مطمئنا متبوعا بإجراءات هيكلية تنزل الناس منازلهم، إجراءات تقدم الكفاءات الوطنية، وتدعو الجميع إلى ممارسة حقوقهم على أساس القانون ووفق قواعد اللعبة الديمقراطية التي جرى بها العرف العام أو تم بشأنها توافق وطني أو قامت على أساس "عقد اجتماعي" لا يقصي أحدا ولا يحاسب الناس على ألوانهم السياسية أو انتماءاتهم الحزبية أو نضالاتهم النقابية أو المجتمعية، ويضع كل ناجح نفسه - بعد نهاية المعركة الانتخابية - في خدمة جميع أبناء الوطن وبناته من الذين زكوه وحملوه على أكتافهم إلى سدة الحكم ومن الذين عارضوه ونافسوه وتصدوا لمشروعه خلال الحملة الانتخابية. فالمعركة السياسية اليوم قد تجاوزت الخطاب الإيديولوجي وطوت ملف لغة الخشب وخطاب التخويف بالفزاعات المرتبطة بالتاريخ وتصيد هفوات لفظية تحدث في مسار المعارك السياسية لأنها جزء من ضريبة التعاطي مع واقع تجتمع فيه كل المتناقضات، والرأي العام يتفهم هذه الهفوات ويحاسب التيارات على مواقفهم من القضايا الجوهرية الكبرى المتعلقة أساسا بالعدالة الاجتماعية والحريات ومكافحة الفقر والبطالة والفساد واعتماد الشفافية والوفاء بالوعود ومحاسبة الناس وفق القانون العادل والقضاء المستقل، والتعايش مع الفرقاء وقبول الرأي الآخر والتداول السلمي على السلطة بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع والتسليم بالنتائج مهما كانت طبيعة وإيديولوجية الحزب الفائز والتعاون مع الفائزين لتحقيق الحرية والكرامة والتحرر الاقتصادي.. في ظل السيادة الوطنية الكاملة. لماذا نُخوف الناس بفزاعات الإسلاميين ونذكرهم بالطالبان وبعمليات "بوكوحرام" وتصريحات زعماء فشلوا في تخطي "سنة أولى سياسة"، وهم يدركون قبل غيرهم أن التيارات التي زكتها صناديق الاقتراع لا صلة لها بالظواهري ولا ببن لادن، ولا علاقة لها بتورا بورا ولا تعرف عن القاعدة إلاّ ما تكتبه وسائل الإعلام وما أصدرت يوما بيانا تبارك فيه سلوكات الذين يستخدمون العنف للوصول إلى السلطة أو تساند الأنظمة التي تقتل شعوبها للبقاء في السلطة، إننا نتحدث عن تيارات الإسلام الوسطي المنادي إلى نظام ديمقراطي تعددي وشفاف، يحكمه القانون ويتم فيه الفصل بين السلطات وتسود فيه الرقابة البرلمانية، وتعاد فيه السلطة إلى أصلها المدني الذي لا يهتم بلحية الإمام ولا بقلنسوه القس طالما الجميع خاضعون لسلطة المؤسسات الدستورية التي تحدد لكل هيئة صلاحياتها وتضع كل فرد أمام مسؤولياته، وتحاسب الناس على أساس الحق والواجب وليس على أساس ألوانهم السياسية. فالديمقراطية إن لم تكن حقوقا وواجبات يحكمها القانون ويراقبها الشعب وتحسم خياراتها الصناديق الشفافة، تحولت إلى استبداد، والاستبداد ظلم سواء أرسل لحيته أو عبثت أصابعه بالسيجار...