أتذكّر جيّدا ذلك الفرح الذي غمرني في مطلع التسعينيات، وذلك الاعتزاز الذي تملّكني حين وصلتني رسالة من أدونيس ردّا على خطاب كنت أرسلته إليه، تساءلت حينها كيف يجد شاعر كبير مثله الوقت للردّ على بريد شاعر مغمور مثلي يسكن أقاصي الصحراء الجزائرية في وقت يتحجّج فيه كثير من النكرات بكثرة مشاغلهم عن الردّ على رسائلي. حدث ذلك في مطلع التسعينيات، ثم توالت رسائلي إلى أدونيس وتوالت ردوده عليها بنفس الحرص وبنفس قلم الحبر الأسود وبذلك الخط الأنيق القريب من الرقعة، لم تكن تلك الانتقادات وتلك التصويبات ونصوصي التي يعيدها إلي مرفقة مع الرسالة، وبها هوامش كثيرة من التصحيح والملاحظات لتسبب لي أي حرج أو لتقلل من قيمتي في نظر نفسي، بقدر ما كان يعنيني أن أتعلم منه أبجدية الكتابة وأن أفيد منه قدر ما أستطيع. في إحدى المرّات أوصلني تأملي العميق لأحد ردود أدونيس وملاحظاته على نص من نصوصي إلى استنتاج مفاده أن الشاعر الحقيقي لا يمكن أن يستعمل كاف التشبيه، ولا أعلم إن كان الأمر صحيحا أم لا، ولكن ذلك الاستنتاج بالنسبة لي صار قناعة راسخة بقوة النظرية. أسوق هذا الكلام للتدليل على أن الرجل أي أدونيس كان من طينة خاصة على الصعيد الإنساني، يعلمك أن تأخذ الأشياء بالجدّ الذي تستحقه، وأن الكتابة هي سلطة الكاتب الذي لا سلطة له، وإذا افتقدها لا يمكن أن يحصل عليها لا من السياسة ولا من المال ولا من الجاه. في مرحلة تالية انخرط معي في التواصل مع أدونيس عبر الرسائل شاعران صديقان هما: مصطفى دحية ومحمد علي سعيد، وقد كنّا نرسل له نصوصنا فيتفضل بالتعليق عليها وإبداء الملاحظات حولها، ومازلت أتذكر أننا كنا نقضي الساعات في تدارسها، وتقليبها على مختلف أوجهها.. ورغم الملاحظات الكثيرة التي كان يبديها حول نصوصي، فقد فاجأني ذات يوم بعدد من مواقف، وفيه نص لي ونص لمصطفى دحية ونص للشاعر عثمان لوصيف، نشرها تحت عنوان ثلاثة أصوات من الشعر الجزائري. وإذا كنت أتأسف على شيء فهو أنني لم أتمكن من لقائه لقاء شخصيا، وكان قد أخبرني في إحدى المرات بأنه سيكون ضيفا على لقاء ينظمه المركز الثقافي الفرنسي بالجزائروقسنطينة، إن كانت لدي رغبة في الالتقاء به. وإلى اليوم لا أجد تبرير ا لذلك التقاعس مني والتفريط في لقاء أدونيس، لكن الأكيد أنه ما كان لي أن أتجاوز بسهولة شعور الخوف ورهبة الوقوف أمام قامة مثله. لاسيما بالنسبة لشخص مثلي تربّى على الخجل وطباع البداوة... كان أدونيس بالنسبة لأمثالي من شعراء جيل الثمانينيات أيقونة كبيرة وهرما لا يضاهى، ولا يمكن لأي شاعر منا أن ينكر إفادته منه، وقد كان المرحوم بختي بن عودة في لقاءاتنا يثير غيرتنا باقترابه الإنساني منه وتواصله معه ومع عوالم الكتابة عنده. حين يستفيض في الحديث عن جديده الشعري الذي كنا نواكبه بصعوبة نتيجة العزلة الجغرافية. وقد كان أكثر كتب أدونيس التي قرأناها وتداولتها الأيدي منسوخا عن الأصل، ولم تكن النسخ المطبوعة، وإلى الآن لا أستطيع أن أدّعي أنني رأيت النسخة المطبوعة من كتابه "الصوفية والسريالية". كان أدونيس في رسائله يتوجس خوفا على الجزائر وهي تعيش محنتها، ويتألم بحرقة لما تعرّض له كتابها من تصفية واغتيال... وقد وقع في نفسي مرارا كثيرة أن الكتابة إذا لم تكن بنفس توهج أدونيس وتعاطيه معها فالأفضل لي أن أتوقف عنها، لأنني لست أهلا لها.. وكان آخر تواصل لي مع أدونيس هو أنه أرسل لي نسخة من كتابه "زمن الشعر" مُهدى بتوقيعه، مع صديق صحافي أجرى معه حوارا بمناسبة آخر زيارة له إلى الجزائر بدعوة من المكتبة الوطنية.. أحمد عبدالكريم