كان "المهاتما" غاندي يكره الحرب ويحب الصلاة على مذهبه، وكانت الهند مستعمرة بريطانية. ومع أن غاندي لم يطلق رصاصة واحدة في صدر العدو، فإن الهند تحرّرت بمسمى المقاومة السلمية التي استلهم منها الفكر السياسي نظرية "العصيان المدني". كيف حصل ذلك؟ لن أتحدث عن "المهاتما" ولا عن مستعمرات الأمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، ولن أضيّع وقتك في تقليب صفحات تاريخ الحروب الكونية وما صنعته أطماع الاستعمار بين ثورة الفحم إلى جنون اكتشفات مناجم الذهب وما قرّره "ماترنيخ" عن التوازن الاستراتيجي بعد أن اكتشف العالم أهمية المحروقات وصارت أوطانها "بغريرا" لآبار النفط، وصار الاستعمار القديم ينظر إلى عالمنا الإسلامي بمنظار الحاجة إلى مخزوننا النفطي وكأننا ضرع البقرة الحلوب كلما درّ المزيد من النفط تفاقمت عليه المزيد من المشكلات، فإذا شحّ ضرعها تفرّقت القوى الباطشة – من أصحاب النيتو والفيتو- بحثا عن أبقار جديدة للحلب والسلب والنهب.. هذه كلها سياسات باتت معروفة وصارت أساليب عملها مكشوفة، لذلك سوف أتحدث عن السلاح البارع الذي استخدمه غاندي، والذي قد تم بعثه من طرف الشعوب التي اكتشفت فجأة أن الحب صار أقوى من الحرب، وأن الصلاة أصبحت أكثر تأثيرا في واقع الناس من القتال، وأن الإنسان الفنان يستطيع أن يقطف الثمرة دونما حاجة إلى قطع الشجرة، كما يستطيع أن يفتح الباب ويدخل البيت دونما حاجة إلى كسر الزجاج وتحطيم الأقفال وخلع الأبواب بالقوة أو نسفها بالديناميت.. إن هتافات "الشعب يريد.." قد تحوّلت إلى برنامج عمل ناعم فيه كثير من الحب وقليل من الحرب، لولا عاملان أفسدا على الشعوب زحفها نحو الديمقراطية وأوقع بعض الحكام المستبدين في غرور "زنڤة..زنڤة"، هما : - التدخل الخارجي الذي يسمّم بساتين الحب بسموم بارود الحرب - وشهوة التأبيد والتوريث التي تحاول أن تفرض على الشعوب الحب بالحرب. وكلتاهما جريمة في حق الإنسانية : فقصف بسمة الحب بمدافع الحرب يحيل الدنيا كلها إلى أنهار من الدموع عندما يكتشف المنتصرون والمنهزمون أن الرابح فيها والخاسر قد فقدا أعزّ ما يملكة الإنسان في هذه الحياة وهو "كرامته" التي داستها أهوال الحرب ومرّغت كرامتها فظائع القتال وصادرت شرفها مخازي الغزاة (ولكل حرب مخازيها!؟) وعندما يكتشف الرأي العام، بعد أن تضع الحرب أوزارها، أن الثمن المدفوع كان أكثر بكثير من "السلعة" المقبوضة، وأن الذين كان يفترض أن يستمتعوا بالحرية والعزة والكرامة..كلهم قد ماتوا أو قتلوا وأكلتهم نيران القصف العشوائي وداستهم آليات العدو ومزنجراته.. وبعضهم ذهب ضحية "نيران صديقة"..يومها يسقط كل جمال أمام بشاعة الحرب، وتحتاج البشرية يومها إلى من يجدّد لها قاموس التعاطي مع الواقع بكثير من الحب وقليل من الحرب، لأن فقدان "مصلح" واحد لا يمكن تعويضه بملء الأرض ذهبا وفضة..، فبعض الرجال عشرة وآخر مئة وثالث ألف وقد يصبح الرجل الواحد أمة، كما كان إبراهيم أمة : "إن إبراهيم كان أمة"، وعلى إثره كان الصديق، والفاروق، وذو النوريْن، وحيدرة وعامر بن الجرّاح والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت والزبير بن العوام..ثم الشيخان البخاري ومسلم، ثم أصحاب المذاهب الأربعة (رضي الله عن الجميع) وكل المجدّدين والمصلحين الذين نشروا الخير في الأرض وزرعوا فيها الفضيلة إلى أن وصلت البشرية إلى قمة رشدها دون أن يطلقوا رصاصة واحدة، لأنهم أدركوا أن البشرية تحيا بالعلم والمعرفة والحب.. لا بالقهر والإكراه والحرب.. إن الجمال تفسده القوة، والحقيقة يزيّفها الكذب..وليس شرطا أن يكون القتال هو الوسيلة الوحيدة لإخضاع الناس، فهناك ما هو أقوى من الحرب إذا أحسن صاحبه استخدامه في الوقت المناسب والمكان المناسب، إنه القدرة على كسب قلوب الناس بالاحترام وغزو نفوسهم بالكلمة الطيبة وزرع الأمل فيهم بالخير..من بعد ما قنطوا. إن الذين غيّروا التاريخ وكتبوا سطورا من نور لم يكونوا فاشيين ولا نازيين ولم يتتلمذوا على "هولاكو" ولا دخلوا مدرسة "اشنقوا آخر بورجوازي بأمعاء آخر قسيس"وإنما كانوا أساتذة في سقي حقول الخير بأمطار" زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون".