في محكمة الشعب·· تكون الجنايات ضخمة ومريعة·· ويأتي القصاص قويا وعادلا·· ويكون القاضي بتعداد ملايين الخلق المنكل بهم·· أما الجالس في قفص الاتهام·· فلن يكون من جنس الجناة العاديين الذين قتلوا أو جرحوا فردا أو فردين··· ولا من صنف الجانحين الصغار الذين سرقوا خلسة درهما أو درهمين·· بل اسم كان ملء السمع والبصر·· إنه الحاكم بعينه· كل الطغاة الذين حوكموا أعدموا·· وفي الثورة الفرنسية·· كان الثوار يرددون·· (أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)·· والجبابرة الذين نجوا من القصاص·· إما جنوا وهاموا على وجوههم في البراري·· وإما استخفوا بأسماء مستعارة·· ليعيشوا خائفين مطاردين· الآن·· ولأول مرة في التاريخ العربي المعاصر·· وأمام محكمة الشعب العربي الثائر·· يقف·· وسيقف أكثر من حاكم بأمره·· متهما (بفتح الهاء) لا متهما (بكسر الهاء)·· مدانا لا بريئا··· محكوما عليه لا حاكما على غيره·· خائفا يرتعب لا متجبرا ينظر للناس من عل·· ليجيب عن أسئلة العدالة الشعبية· فهل لهذا الحاكم من توبة؟ وهل يرجو البراءة مما نسب إليه من موبقات وآثام؟ أسئلة حاسمة·· تشغل بال العربي المظلوم·· أملا في قصاص أرضي·· يسبق محكمة السماء· ٌٌٌثلاثة شروط·· يمكن بتوفرها·· أن يتوب الحاكم العربي·· وبانتفاء أي منها·· تستحيل عليه التوبة·· وبالنتيجة يقع القصاص العدل من أكبر ظالم في التاريخ· أولا·· أن يعرض نفسه على العدالة طوعا·· لتأخذ مجراها·· وأن يكف عن الهروب منها أو تعطيلها·· وأن يجلس في قفص الاتهام ذاته الذي وضع فيه شعبا برمته·· وألا يلتمس محاميا يدافع عنه·· أليس هو القاضي الأول الذي يجيد الدفاع عن نفسه·· وألا يحاول إخفاء الأدلة أو تزويرها أو إعدامها·· فإن ارتكب شيئا من هذا·· اتهم بالتحايل على العدالة·· وضيع فرصة التوبة عليه· باختصار·· كما انتهك العدالة طويلا·· وصنع منها أداة للانتقام من خصومه·· أضحى الآن مطالبا بإعادة الاعتبار لهذه العدالة·· بدءا منه·· وليس أبعد من ذلك· فهل يستطيع الحاكم العربي·· الذي ألف الظلم والصلف والعدوان·· أن يفعل ذلك؟ ٌٌٌثانيا·· أن يلتمس العفو من كل الناس الذين أساء إليهم وظلمهم وسلخهم ونحرهم·· فإلى جانب ملايين الأحياء الذين سامهم العذاب·· عليه طلب العفو من الأموات الذين مضوا إلى ربهم دون أن يستردوا حقا اغتصب منهم·· أو يدفعوا حيفا لحق بهم·· وأيضا من كل الذين لم يولدوا بعد·· من الأجيال التي صادر مستقبلها·· وقتل أحلامها·· وقبر آمالها· فهل يقدر على طلب الصفح من ملايين المنكوبين بسببه·· من موجودين يرجون القصاص·· أو مفقودين ينتظرون قدومه عليهم·· أو مرتقبين على ذمة غد صادره منهم؟ ٌٌٌثالثا·· أن يعيد المظالم كلها إلى أصحابها·· لا يستثني منها شيئا·· يعيدها عدا ونقدا كما يقولون ·· ولأن لائحة الاتهام مفتوحة·· وهي بالجملة·· من صنف الكبائر والجنايات·· نكتفي بذكر ما سرق من أعمارهم·· وما نهب من أموالهم·· وما قبر من أحلامهم·· وما صادر من حقوقهم·· وما كبت من أصواتهم·· وما عذب وشنق وقتل ونفى وشرد من أبنائهم·· وما شل من إرادات خيرة فيهم·· وما أهدر من قدراتهم وطاقاتهم كامنة فيهم·· وما أبكى من مظلومين··· وما أسال من دموع المفجوعين·· وما أضاف من يتامى وثكالى ومحرومين·· وما ضيع من فرص·· وما سلط من خوف ورعب·· وما عطل من قوانين وأحكام··· وما استباح من شرف·· وما مرغ من كرامة·· وما أوقع من آلام·· وما فرض من جهل·· وما عمم من فقر··· وما أمضى من غش·· وما زور من انتخابات·· وما أخلف من وعد·· وما اشترى من ذمم·· وما خان من أمانات·· وما أعان عليه أو سكت عنه من انحرافات·· وما قرب من لصوص ومفسدين وساقطين·· وما باع واشترى وفاوض ووقع باسمهم دون أن يكون لهم رأي فيه··· وما ضحك على الناس وكذب عليهم·· وما أفسد في الأرض· ولأن القائمة طويلة·· بطول عمر الحاكم نفسه··· وحيث يسع كل ضحية أن يضيف إليها مظالمه·· فهل بإمكان هذا المتهم أن يبرأ من كل ينسب إليه؟ ٌٌٌهذا عن توبة الدنيا·· وكشف الحساب الذي يجب أن يقدمه الحاكم العربي بين يدي عدالة المظلومين·· وهي غير عدالة الظالمين·· فماذا عن التوبة بين يدي الله·· العزيز القدير·· هناك نجد الحساب مختلفا·· والدينونة من طراز آخر·· والقصاص من لون لم يعهده البشر·· {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ – الأنبياء47}· فهل يتوب الحاكم العربي اليوم·· قبل أن تتلقفه عدالة الغد؟