أفضت الانقسامات التي تعرضت لها الدول ولاتزال عبر العالم الى اتساع دائرة التعدد اللساني، ما دفع إلى الرقي باللهجات واللكنات إلى لغات رسمية تعتمدها مختلف الشعوب في ربط جسور التواصل بينها، ما عقّد استعمالات اللغات وطفا بهاجس التعدد اللغوي إلى السطح كمشكل جدي يهتم اللغويون بدراسة أبعاده على التواصل الإنساني، على غرار العرب، الذين يبحثون تأثير اختلاف الألسن على اللغة العربية الفصحى وهشاشة التعاطي مع عوائق استعمالات اللغة الأم أمام اكتساح اللهجات العامية واللكنات. نقلنا انشغالنا إلى الوزيرة السابقة والأديبة زهور ونيسي، فكان لنا معها هذا الحديث. بداية لماذا أصبح التخوف من التعدد اللساني هاجس كل اللغويين مع زيادة الانقسامات الدولية التي أدت إلى تحول العديد من اللهجات إلى لغات رسمية؟ التعدد اللساني مطلوب، ولكن دون أن يطغى على اللغة الأم واللغة الوطنية الرسمية، لأن اللغة الرسمية ضمن هويات كل شعوب العالم هي ثابت من الثوابت التي لا يمكن الاستغناء عنها مثلها مثل التراب الوطني، العَلَم، التاريخ الذي لا يتغير، وكذا الحرية والاستقلال. وأنا أقول نعم للتعدد اللساني، نعم لاكتساب اللغات المختلفة من أجل مواكبة الحضارات التكنولوجية الحديثة، لكن اللغة الأم يجب أن تبقى في مكانتها اللائقة، ونجتهد في الدفاع عنها من أجل إثرائها، وهذا لا يتحقق إلا من خلال الدراسات والبحوث، وكذا حتمية توفير المخابر اللغوية لتعزيز الرصيد اللغوي للشعوب العربية والإسلامية على حد سواء. وقد أثبتت اللغة وجودها في العديد من الدول الأجنبية باحتلالها المرتبة الثانية ضمن سلم اهتمامات الأنظمة الدولية في بعض البلدان على غرار كوريا وإسرائيل، والسؤال الذي يجب أن يطرح.. هل يمكن أن تتطور اللغة في إسرائيل وتصبح متحكمة في مختلف التكنولوجيات وفي العالم الآسيوي كذلك، واللغة العربية لا تتطور؟ على العكس العربية فيها من الألفاظ والمصطلحات ما يستعصي على اللغات الأخرى وما يفتح المجال لبحوث معمقة وواسعة. العربية من لغة العلوم والبحوث المختلفة التي نهل منها أشهر العلماء إلى لغة سطحية التناول، تم ركنها إلى زاوية ضيقة لا يتسع استعمالها حدود الحوار، ما هي الأسباب في رأيك؟ الأسباب قاهرة أحيانا لأنه عندما تستعبد شعوب وتنهزم أخرى ويتم الاستيلاء على خيراتها، تراثها وتاريخها وحتى على أرشيفها، فبطبيعة الحال اللغة ستكون من جملة الأشياء التي تتدهور وتنهزم، وهو حال الجزائر مثلا التي استعمرت 130 سنة منعت إثرها اللغة العربية بالقانون ودفع بها الى أن تركن على الهامش طيلة هذه السنوات، وهذه المدة لها قيمتها فيما يخص دورة الزمان والتطور الزمني للغات الأخرى، لذلك نحن اليوم كوطن عربي كبير ورغم أن لغته هي العربية الفصحى غير أننا نجدها منهزمة كما انهزمت الشعوب العربية وتاريخها، وهذه نتيجة طبيعية لما عاناه العالم العربي. وبما أن اللغة هي وعاء الفكر لا بد لها دائما من تطور فكر جديد حتى تستمر في الرقي والإزدهار. برأيك متى يستطيع العربي أن يحاضر بلغته الأم في المحافل الدولية دون اللجوء الى الفرنسية والإنجليزية، وغيرها من اللغات التي تفرٍض على العرب التحدث بغير العربية؟ هذا راجع إلى الموقف السياسي للقادة العرب، فعندما توجت اللغة العربية في الأممالمتحدة بعد نضال طويل وكذلك اليونيسكو كان بإرادة سياسي،ة واليوم تغيب هذه العزيمة، والعربية لغة يتكلمها قرابة 3 مليون من البشر، وحتى المسلمون يتقنونها فقط لأن الكتاب المقدس لديهم هو القرآن وهو منزل بالعربية الفصحى، لذلك لابد من نضال جديد وحقيقي كي تسترجع مكانتها، لأن الاستعمار لا يخرج عندما نطرُد عساكره ونصبح متحكمين في التراب الوطني، بل على العكس فالاستعمار يترك رواسب كثيرة، منها راسب اللغة التي تقهر في فترة ما وتبقى تعيش هذا الانزواء والانطواء. هذا بالنسبة للجزائر أما بالحديث عن للعالم العربي فتصبح الوضعية كلية وليست جزئية. نبقى في نفس السياق، الجزائر مثلا في كل مشاركاتها خارج الإطار العربي تضطر للبحث عن مشاركين متقنين للغات الأجنبية حتى وإن كان ذلك على حساب الإلمام بالمواضيع. أين هي الهوية الجزائرية العربية من كل ذلك؟ الهوية الجزائرية تضم العروبة، الأمازيغية والإسلام، وبما أن الإسلام هو الجامع الأول بين كل المسلمين فلا بد أن تتقن كل دوله العربية، وأن تأخذ هذه الأخيرة مكانتها اللائقة في الجزائر لتصبح لغة كل المناسبات، فهذا يتطلب العمل الجدي، لذلك نجد أن في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي الفضل كله يعود الى جمعية العلماء المسلمين التي تأسست من أجل تعليم اللغة العربية والدفاع عنها وإلا لكانت لغتنا الأم اندثرت مند زمن، وعلى جيل اليوم مواصلة المهمة.. نعود الآن الى قضية الترجمة، لماذا لاتزال هذه الأخيرة في الجزائر عقبة في وجه كل البحوث الأكاديمية والعلمية وحتى الأعمال الأدبية؟ مشكلة الترجمة تطرح في الجزائر وفي الدول العربية الأخرى، ورغم أن المعهد العالي للترجمة أسس لهذا الغرض، غير أن جهوده تبقى غير كافية ولم يعرف لحد الآن أي يكمن الخلل في دور المعهد، وهذه أيضا من بين الإشكاليات الكبرى التي يجب أن توجد لها حلول جذرية في الجزائر وعلى مستوى عالمي. إذن ما محل المعهد العالي للترجمة من كل هذا؟ المعهد العالي للترجمة تابع للجامعة العربية ومهما قدم للغة قليل، لأن جهود البلدان التي عانت من الاستعمار وفعل بها هذا الأخير فعلته يجب أن تكون أكبر من البلدان الأخرى التي لم تتعرض للاستعمار ومرت بوتيرة حياة عادية، ومن المفروض أن يكون الأساتذة المتواجدين بالمعهد هم أساتذة متقنون لعدة لغات أو متخصصين في لغة واحدة على الأقل إضافة الى العربية، لأنني أرى أن المشكل هو سياسي، إيديولوجي وعملي أيضا، ويتطلب تكاثف الجهود لإيجاد استراتيجية كاملة من أجل إعادة الاعتبار للغة العربية، والمجلس الأعلى للغة العربية منذ تأسيسه إلى غاية اليوم ملأ فراغا كبيرا، حيث أضيئت بفضله زاوية اللغة العربية، وأصبحنا نعرف أين مكان الخلل والتقصير في هذا الجانب. من منظور الأستاذة والوزيرة السابقة للتربية الوطنية، ماذا قدمت سياسة التعريب التي انتهجت في الجزائر ومست جل الفروع العلمية في الجامعات، ما عدا بعض التخصصات العلمية والتقنية للغة العربية؟ أعتقد أن الفضل يعود إلى المكانة التي تحظى بها العربية الفصحى في الطور الابتدائي ودورها في التربية، خاصة من طرف جيلنا نحن الذي يحب إتقان جميع اللغات، لكن بشرط أن تكون اللغة العربية في المستوى، وأعتقد أن ما كان معمولا به في السابق أحدث خللا في نظام التدريس لأن التلاميذ يدرسون بالعربية في المراحل التي تسبق الدراسة الجامعية، وعند الوصول الى الجامعة يتحولون الى الدراسة بالفرنسية، ما خلق صعوبات لدى الطلبة، لذلك أرى أن التعريب في الطور الجامعي أثمر لأنه محصلة تكوينات سابقة انتهجت في كل من الأطوار الابتدائية، المتوسطة والثانوية. نختم لقائنا بالأدب.. ماذا عن مذكرات زهور ونيسي التي طال انتظارها؟ الأكيد أن قرائي سيلتقون قريبا مع يومياتي التي أنهيت كتابتها مؤخرا وهي الآن على مستوى مطبعة دار القصبة، وقد اخترت لها عنوانا مشوقا جدا "بين الزهور والأشواك"، وبين مسار امرأة ناضلت بكل حب وتفان من أجل إعلاء صوت الجزائر بمساهمة نسائها.