عندما تسلب شاحنات الموت حق الطفل في الحياة تخلت عنهم الطفولة وتبرؤوا منها، فهي لم تجد مكانا لها في حياة أطفال مثلهم، هجروا اللعب والملاهي. وبدلا من التوجه إلى المدرسة، ألفوا الرائحة الكريهة وعقدوا ميثاقا غليظا مع القمامة، بعدما قدسوها وحولوها الى الدجاجة التي تبيض ذهبا.. إنهم أطفال مع وقف التنفيذ سلمتهم ظروف المعيشة ل”المزبلة” لتصبح كل عالمهم ومصدر رزقهم. وجهتنا كانت مفرغة وادي السمار، التي رغم استئناف عملية إزالتها منذ فترة طويلة إلا أنها لاتزال آهلة بالنفايات وعمال القمامة ممن يعيشون عليها. لم يكن الدخول اليها بالأمر الهين، فالكل كان يتحدث عن همجية هؤلاء الأشخاص، ويصورهم أنهم مجرمون من الدرجة الأولى.. كل ذلك أثار فينا الكثير من الهلع، إلا أن حب الاطلاع جعلنا نخوض المغامرة.. استعنّا بأحد عمال الأمن في المفرغة الذي قبل الدخول معنا، وعند المدخل التقينا بشاب ممن يعملون فيها، فهو قضى 15 سنة من عمره في المفرغة.. رابح، البالغ من العمر ثلاثين سنة، وعدنا بالمساعدة وحرص على مرافقتنا لضمان الحماية داخل هذه “الجمهورية”. استقبال عدواني ل”الوحوش” حذرنا مرافقنا من رد فعلهم الأولي، إذا علموا بوجود الصحافة في امبراطوريتهم التي يقتاتون منها، والسبب كان غريبا للغاية فهم يضعون كل اللوم علينا في إثارة الرعب منهم.. فأول ما نصحنا به مرافقنا هو عدم إبداء أي خوف منهم، أو اشمئزاز من شكلهم ورائحتهم. فأي خطا كان سيكلفنا التعرض لهجوم عدواني من طرف أشخاص يرفضون الأحكام التي يطلقها عليهم العالم الخارجي، والذي - على حد تعبير مرافقنا رابح - يصورهم على أنهم مصاصي دماء لا يهمهم إلا الحصول على الأموال بأي طريقة. كما أن الكثير من وسائل الإعلام صنفتهم كخارجين عن القانون، وكعصابات إجرامية تسفك الدماء من أجل الحصول على النقود.. كل هذه الخلفيات جعلتنا نتخوف كثيرا من التقرب منهم وتحول الأمر لدينا إلى مواجهة للمجهول. بمجرد وصولنا إلى مكان احتشد فيه الكثير منهم في انتظار الشاحنة التي ستدر عليهم الرزق، التفوا حولنا لمعرفة هويتنا، وما أنقذنا منهم معرفتهم لسبب وجودنا وأننا أردنا فقط تصوير معاناتهم.. الأوساخ تغتال ملامح البراءة في وجوههم وجدنا عددا لا بأس به من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين الثمان والأربعة عشر سنة، منهمكون في مداهمة الشاحنة الداخلة الى المكان، ليظفر كل منهم بغنيمته، لم نتمكن من التمييز بين الكبار والأطفال إلا بالحجم، فالعمل كان بنفس الطريقة، وتشابهت الحركات والأكياس التي كانت تحوي ما جمعوه من نفايات صالحة للبيع، إلا أن حجمهم الصغير دلنا عليهم. وبمجرد سؤالنا عن الأطفال الذين يعملون، تفاجأنا بملاح غطاها الغبار والأوساخ، ولم يعد يظهر منهم سوى أسماؤهم، أيوب، حمزة، بلال، حسن، محمد.. كل هؤلاء طلّقوا المدارس وقرروا دخول عالم الشغل من باب مفرغة وادي السمار، ليخلعوا ثوب البراءة ويتنازلوا عن الطفولة، وهم يجرون وراء الشاحنات ويتمسكون بها للظفر بنصيبهم من غنيمة ما تجلبه، ويدخلوا عالما يجعلهم أطفالا فوق العادة. يوم شاق ومتعب مقابل 500 دج فقط يستغرق عمل هؤلاء الأطفال الصغار يوما كاملا، فهم يخرجون في الصباح الباكر ليتوجهوا إلى المفرغة محملين بأكياسهم، ليبدؤوا عملهم بمباغتة شاحنات النفايات أمام مدخل المفرغة، وكل حسب حظه ونصيبه في كل يوم، لتسلم إلى من يتولى شراءها أو بيعها مباشرة لممثلي المؤسسات التي تهتم برسكلة بعض المواد مثل البلاستيك والألمنيوم. وبعد يوم كامل من الشقاء لا يحصد هؤلاء سوى دنانير معدودة لا تتجاوز 500 دج في اليوم، هي وحدها تجسد فرحتهم وتتوج يوما كاملا من العناء. وفي الكثير من الأحيان يحرمون من حقهم في الأجرة تحت طائلة أشخاص يدّعون مساعدتهم ويستولون على شقائهم، وهكذا تحول كل اهتمامهم إلى المال لدرجة أن بعضهم طلب منا المال لقاء أخذ صورة لهم.. لأن أعظم أمنياتهم الدخول إلى البيت ليلا بمبلغ محترم يحسسهم بالمسؤولية والرجولة. أيوب.. طفل برتبة “رب عائلة” أيوب، أصغر عامل في هذه المفرغة والكل كان يتحدث عنه باعتزاز، هو طفل ذو ملامح هادئة لم نسمع له صوتا طوال تواجدنا في المكان، غطى الغبار وجهه، وسحبته من الأسمال البالية التي كان يرتديها تلك الحيوية التي يظهر بها أبناء جلدته، فكان يلتقط من القمامة ما هو صالح بكل تركيز، متخفيا وراء الكيس الكبير الذي كان يحمل فيه رأس ماله. لقد رفض الحديث إلينا إلا أن أعينه أفصحت عن كل ما أراد إخفاءه، كل نظرة منها كانت تقدم طعنة في قلوب كل من اعتبر نفسه مسؤولا أو ناطقا باسم الطفول. وحسب رواية الموجودين، يتولى هذا الطفل الصغير مسؤولية عائلة بأكملها، فوالده اختصر على نفسه كل العناء وحل مشكل بطالته بإرساله الى هذا المكان لتعلم ما أسموه “صنعة”، تمكنه من جني قوت يومه، وتنصبه مسؤولا عن والدته وإخوته، فأجرته اليومية مهما بلغ قدرها كانت توجه مباشرة إلى والده. لم يتسن لنا الحديث معه إلا أن حالته كانت تؤكد انه بعيد كل البعد عن كلمة “طفل”، فهو لا يلعب، لا يضحك، لا يتكلم إلا من أجل لقمة العيش، وهو ما حوّله الى رب عائلة في سن الورود. لعبهم “أسلحة بيضاء” ورفقتهم السيجارة والمخدرات حالة الأطفال في ذلك المكان كانت جد متشابهة، فهدفهم واحد، وجني المال أولوية كل من وجد نفسه عبدا لهذا المكان الموحش.. فنفس الأسباب جعلت بلال، 15 سنة، وحمزة، 13 سنة، وحسين، 17 سنة، يختارون هذا المكان دونا عن غيره ليصبح عالمهم كله، متحدين بذلك كل المخاطر التي تحدق بهم، وإن كان عم بلال هو من أدخله هذا العالم إلا أن حمزة كان خائفا وهو يدخل إلى هذا المكان لأول مرة، وهو ما جعله يستعين بالسلاح الابيض لمواجهة أي مشكل، لتتحول بذلك هذه الأدوات إلى ضروريات من أجل الانخراط في هذا العالم الخطير. وإذا كانوا قد عوضوا لعبهم بالسلاح فإنهم لم يتخلوا عن الهوايات، فداخل المزبلة وبين أحضان القمامة، لا يجد هؤلاء الأطفال راحة أعظم من تدخين سيجارة تخفف عنهم من تعب عملهم الشاق.. هي حقيقة اعترف بها الكثير ممن وجدناهم هناك، حيث أصبحت ضمن ضروريات الحياة، بين أطفال لم يعرفوا من طفولتهم سوى السنين القليلة التي عاشوها. الأمراض والأوبئة تنخر أجسادهم الضعيفة لم تسمح لنا الرائحة الكريهة بإطالة التواجد في المكان، فالهواء كان ملوثا لدرجة أننا تجندنا بزاد من العطور للتمكن من التنفس.. ذلك ما جعلنا نتساءل عن وقع كل هذا على أجسادهم الضعيفة ورئاتهم الصغيرة خلال تواجدهم يوميا في هذه البيئة الملوثة، والإجابة كانت كما توقعنا، فهناك العديد من الأمراض التنفسية التي تفتك بهؤلاء الصغار. وحسب رابح فإن 90 بالمائة من العمال في المفرغة، بما فيهم الأطفال، يعانون من أمراض مختلفة في مقدمتها الأمراض التنفسية والجلدية نتيجة للمحيط الغير صحي الذي يعملون فيه دون توفر أدنى وسائل الحماية. وعن أنواع الأمراض فهم يجهلون حتى أسماءهم ولا يعرفون عنها إلا أعراضها التي على صعوبتها تلاشت أمام هيبة المكان وصعوبة الظفر بلقمة العيش، لنتساءل.. أين هي جمعيات حماية الطفولة من كل هذا؟ ولماذا وقعت الجزائر على اتفاقية حقوق الطفل؟! قصص مأساوية تغتال فلذات الأكباد في مهدها رغم أن قساوة الحياة والظروف المعيشية جرتهم إلى أحضان هذه الأعمال الشاقة، إلا أنهم اضطروا لمجابهة الكثير من المخاطر والاضطهاد. وإذا كانت الأمراض تفتك ببعضهم، فشاحنات نقل القمامة تتربص بحياتهم في كل وقت وحين، فكم من طفل تجاهله سائق الشاحنة ومر عليه وكأنه كومة قمامة.. هكذا حدثت العديد من الحوادث المأساوية في هذا المكان، فرابح، منذ ست سنوات، فقد صديقه بهذه الطريقة، وبتصرف طائش من السائق ودع الحياة وهو في عمر الزهور، فأحمد رحل عن أصدقائه وهو في الخامسة عشر من عمره. أضف إلى ذلك العشرات من الحوادث التي تحدث يوميا، والتي قد تفقدهم حتى أعضاءهم. فحسب محدثينا فهناك الكثير من الأطفال راحوا ضحية آلات إنزال النفايات، فسمير، على سبيل المثال، فقد أصابعه الأربعة، وهو يتجهز لاستقبال ما تنزله الشاحنة، ومثله الكثيرون ممن سُلبوا أعضاءهم في مراكز عمل، تستقبل القصر وتضعهم تحت رحمة قسوة البشر، بلا أدنى أمان أو ضمان.