قطعة من جهنم عنوانها: ”الخبز المرّ” أمراض في استقبال زوار العاصمة ”الداخل إليها مفقود” و”تائه”، فعلى بعد 16 كلم عن قلب العاصمة تمتد مزبلة السمار على مساحة 32 هكتارا، مساحة تتلذذ فيها الأجساد المتحركة هنا وهناك بالعمل في هذا المكان في حركات متواصلة في حمل القمامة والنفايات، ونفوس تعودت على ذلك الجو، المليء بالروائح الكريهة والحشرات التي نمت فيها، وكم هي كثيرة تلك الأجساد التي تتسابق فيما بينها من أجل تفريغ الشاحنات التي تدخلها يوميا بالعشرات بل بالمئات والمحملة بالنفايات· في الجهة الأخرى من الطريق السريع وفي اتجاه باب الزوار نحو العاصمة تتراءى لنا تلك الكومة الكبيرة من النفايات وكما يقال ”ماخفي منها كان أعظم”، ففي تلك الجهة التي تستقبل الجزائر زوارها من كل حدب وصوب، لا يرى الشخص سوى شاحنات تشتغل ليل نهار من أجل ردمها وتحويلها بعد فترة من الزمن إلى مكان آخر، لأن هناك مشروعا باشرته السلطات منذ أزيد من ثلاث سنوات لتحويل المزبلة من ذلك المكان إلى مكان آخر· وفي انتظار إكمال المشروع، فالبطون الجائعة كما وصفها مراد 42 سنة، يجب أن تشبع ولو بفضل القمامة، وهو مقتنع بأنه لا حل أمامه سوى العمل والكد والاجتهاد للحصول على ”مصروف البيت”، وهو يردد الجملة ثلاث مرات على مسامعنا· حذارِ هنا آفة لكنها عادية! في صبيحة يوم الأحد الماضي، كانت الساعة تشير إلى الثامنة وخمس وأربعين دقيقة، هو توقيت الوصول إلى المزبلة بواد السمار، في البداية لم يقبل أحد أن يكلمنا أو حتى أن يعطينا معلومات عن تواجد أطفال القمامة هنا والشباب العاملين فيها، لكن بعد الحديث إليهم لدقائق بدأت الأمور تتضح، وبدأ هؤلاء العمال يتحدثون وفتحوا ل”البلاد” قلوبهم، فمن كثرة الألم ومن كثرة التعب المضني والمشقة، وجدوا ضالتهم في الابتعاد قليلا عن العمل المضني وعن الشمس الحارقة· داكنة، متعددة الألوان، وجوه لفحتها الشمس اسودت من شدة التعرض للشمس خصوصا في فصل الصيف، تحت درجات مرتفعة في شهر أوت وشهر الصيام، هناك من وضع غطاء على أنفه وطاقية على الرأس مخافة لفحة شمس التي لا تحمد عقباها، فقد أفقدت وعي الكثيرين وأدخلتهم في غيبوبة مدة طويلة على حد قول أحد العمال هنا في مراقبة المكان· كانوا يحدقون بعيونهم التي أكلها الغبار ويضعون أيديهم على جباههم احتياطا من أشعة الشمس، رغم أنها التاسعة والنصف صباحا· في ذلك الوقت بالذات كنا نسأل كل من وجدناهم هناك في”الطيميط”، الجو حار والمكان ملوث، ضباب كثيف بسبب الغبار الذي كانت تحدثه الشاحنات، هناك على بعد أمتار من مدخل المزبلة من الجهة اليسرى للطريق السريع من المطار نحو قلب العاصمة، هناك شاحنات تشتغل ليل نهار لردم المزبلة بغية تحويلها إلى مساحة خضراء بناء حسب إشارة مكتوب عليها: ”مدة الأشغال 48 شهرا”، وفي الجهة اليسرى شاحنات نقل القمامة تعمل بكد تدخل المكان لرمي نفاياتها، استغلال الشاحنة يقدر ب 100 دينار للشاحنة الواحدة وقد يتقاضى صاحبها 15 ألف دينار في اليوم الواحد، حسب ما جاء على ألسنة العمال هنا· الشمس كانت حارة جدا وكأنها ”قطعة من جهنم” كما ردد ”سيد علي” 29 سنة، الذي بادر بالحديث إلينا ”تريدون أن تعرفوا الحقيقة هنا؟” هنا آفة، احذروا منها هي آفة التعود على القمامة لا يمكنكم الإقلاع عنها بعد التعود عليها لتصبح إدمانا· نعم هو شخصيا جاء من الشلف وعمره 16 سنة، ليجد زهرة سنوات العمر تمر يوما بعد يوم، اليوم يقول غدا سأبحث عن عمل آخر، عن مصدر قوت آخر، عن منفذ آخر أو عن مهرب آخر، ليجد نفسه يرجع إلى”القمامة”، يعود إليها لأنه رغم تعفنها ورغم تلك الفضلات الضخمة وتلك الروائح الكريهة، إلا أنها تجود عليه بالرزق، وما عليه سوى تقبله بصدر رحب قليله كان أو كثيره· كل يوم يحمل معه رزقه، مدخول يقسم على كل من يتعب ويكد وينهض باكرا في مراقبة حثيثة لكل شاحنة تدخل المكان، الكثيرون هنا يلهثون وينتظرون بفارغ الصبر قدوم تلك الشاحنات· العشرات من الأطفال والشباب والكهول ينتظرون دخول شاحنات القمامة، لم نتمكن من معرفة العدد الحقيقي للشاحنات التي تدخل المكان يوميا سوى بالوقوف في المدخل والقيام بعملية العد وتسجيل ذلك في دفتر صغير، مما دفع الكثيرين إلى معرفة من نحن ولم جئنا إلى هنا؟ أسئلة تبادرت إلى أذهان العمال هنا في أمبراطوية ”الزبل”، فمن الساعة التاسعة صباحا إلى الحادية عشرة تقريبا وسبع دقائق دخلت 65 شاحنة من النوع الكبير منها ما يحمل النفايات ومنها ما يحمل التراب· هنا تدخل سيد علي ليجيب عن سؤال يتعلق بعدد الشاحنات التي تدخل مزبلة ”السمار”، قائلا: ”المئات من الشاحنات قادمة من كل مكان إلى هذا المكان يوميا، المهم في النهاية أن أكثر من 700 شخص يشتغلون هنا ويقتاتون منها” في إجابة خاطفة· وهنا طرح محمد، 39 سنة، هو الآخر يشتغل في المزبلة منذ أزيد من 23 سنة، إنه بعملية حسابية بسيطة إذا كان أزيد من 700 شخص يشتغلون هنا، وكل واحد لديه عائلة يعني أن أزيد من أربعة آلاف أو خمسة آلاف يقتاتون من هذه المزبلة لسنوات طويلة· العشرات ممن كانوا ينتظرون دخول الشاحنات كانوا يحدقون إلينا، وأسئلة كثيرة تدور في رؤوسهم· في البداية الأمر لم يكن لهم سهلا أن يتحدثوا إلينا، بل شعرنا بخجلهم من أنهم يحترفون هذه المهنة التي اعتبرها أحد الشباب الذي لم يتجاوز العشرين ب”العار” في نظر المجتمع الجزائري· لا يعرف الصابون، الرائحة الكريهة أنسته حاسة الشم! استسمح المواطن البسيط القادم من إحدى بلديات ولاية عين تيموشنت، في أن أكتب هذا الكلام ولكن للأمانة هو طلب من ”البلاد” أن تكتب ذلك (···)، وللأمانة أيضا يحز في نفوسنا كتابته كاملا، لقد قال ما يلي بعينين دامعتين وبقلب مجروح: ”لم أعرف يوما معنى أن أشتري عطرا أو صابونا برائحة زكية، ولا أعرف ماركات الصابون المعطر سوى”لوكس” لأن والدته كانت قبل سنوات تفتخر بأنها عندما دخلت عروسا كانت تغتسل بهذا النوع من الصابون”، ويواصل قائلا: ”لم أذكر يوما أنني شممت رائحة طيبة منذ أزيد من 22 سنة، عندما وصلت إلى هنا بحثا عن العمل قبل عشريتين كاملتين هروبا من الفقر في أحد دواوير عين تيموشنت، لم أكن أعرف أن القدر سيسوقني إلى هذا المكان، إلى هذه ”الزوبية” الكبيرة، لأجد نفسي أكرر يوميا، محاولا إقناع نفسي بأن الزوبية أحسن من والد سكير يضرب والدته كل يوم ويطردهم كل ليلة إلى الشارع”··· على حد تعبيره· لا يعرف مراد (اسم مستعار) نوع الصابون ولا حتى رائحته، فالروائح الكريهة أنسته حاسة شم أنواع أخرى من العطور الطيبة، فالعيش في هذا المكان يجعل الشخص يفقد حاسة الشم، القدر ساقه إلى المزبلة الضخمة، تلك التي أصبحت مصدر رزقه ومصدر عيشه ورفيقة يومياته في فترة الشباب، نعم يقول بحسرة والتجاعيد بدأت تتسلل إلى وجهه ”قبل الوقت”، كما ردد وهو يحول نظراته من هنا وهناك، يتحدث بأسى وبخجل كبيرين ليس من صفات الرجال، ولكن تفهمنا تلك الحالة لأنه لم يقدر اليوم على أن يفارق المزبلة، لأنه بكل صراحة وبكل عفوية ”لا يمكنه أن يعيل أربعة أطفال بأجرة 15 ألف دينار” · كان يرتدي سروالا من نوع الجينز، ويشير إليه هذا وجدته في الزبلة، ”ماعساني أفعل، فمنذ سنوات لم أذهب لشراء ملابس لي، المهم أن يأكل أولادي ويلبس أولادي”، يردد على مسامعنا وهو يتحدث بإشارات اليدين، انظروا هناك وراء تلك الكومة الكبرى توجد عائلات تعيش في داخلها، أسر لا تعرف للنهار ولا لليل معنى سوى انتظار شاحنة قمامة، يتصارعون لأجل تفريغها وتنقية الأشياء الموجودة فيها، بل هناك من يقتل لأجل ذلك، وخاصة عندما يجدون أشياء ثمينة ولو كان سعرها لا يتجاوز 200 دينار· كان يتحدث مرة بسرعة ومرة ببطء ومرة بتكرار الكلمات، فهولا يمكن أن يشتغل ب15 ألف دينار خصوصا أن لديه ولدين متمدرسين ورضيعة تحتاج يوميا للحليب، ”نعم أحتاج لملء أفواه خمسة وهو سادسهم، فماذا أفعل؟” قصة مراد بدأت عندما كان عمره عشرين سنة، فقد والده وتزوجت والدته من رجل آخر ليجد نفسه بين الأعمام والأخوال والشارع وهذا يضرب وذاك يؤنب والآخر يوبخ ويشتم· بهذه العبارات كان يتحدث مراد، ليجد نفسه بين شوارع العاصمة يبحث عن شغل ليعيش، فأخذه أحد الشباب من أمثاله إلى”مزبلة السمار” ، فالرزق فيها كبير ووفير على حد تعبيره· يوميا بإمكانك توفير 500 دينار وأكثر لم يتمالك مراد نفسه ليتكلم وهو يضحك، وجه إلينا سؤالا مفاجئا ”أتريدون أن تضربني زوجتي كل مساء؟، ”لم نجد ردا سوى ابتسامة من بساطة كلامه، فبادر للقول ”أنا أمازحكم فقط هي لا تضربني ولكن من واجبي أن أدخل لها الخبزة يوميا”، على حد تعبيره· رحلة البحث عن شيء هام أو آلة أو صفيحة حديد أو بلاستيك صالحين للرسكلة، طويلة جدا حتى يتم تجميعها يوميا في أماكن مختلفة ليست بالرحلة الهينة، فمن يشتغل بجدية ويتحدى الشمس الحارقة ويجمع أكثر الآلات والنفايات سيقبض لامحالة أكثر، ومن يشتغل بيديه وفمه مغلق بإمكانه أن ينال رضا ”الباترون” وكم هم كثر هؤلاء البارونات الذين يستفيدون من بضاعة ليست بضاعة عادية، يمكن من خلالها الحصول على الملايين· العمل هنا يبدأ على الساعة السادسة صباحا وينتهي في ساعة متأخرة، الكثيرون يحلمون بالعمل اليومي هنا في المزبلة، يقبضون خلاله يوميا حوالي 500 أو 600 دينار، المهم بالنسبة لهم أنهم يأخذون قوتهم اليومي، في رحلة شاقة جدا، وليست سهلة، بل هي ”خبزة مرة مرة مرة”· نعم ربما سأقتبس عنوان كتاب للمؤلف المغربي محمد شكري الذي يحمل عنوان ”الخبز الحافي”، فهي صورة لا يمكن أن توصف سوى بأنها خبزة حافية، عارية، لا مثيل لها في أوساط القمامة، الأطنان من القمامة ومن النفايات والروائح الكريهة، فهي قوة تحمل كبيرة وصبر أيوب أن تحتمل تلك الروائح الكريهة· القمامة مثل منجم الفحم منذ سنة 1978 و”هوما يتبعوا في الزبل”·· بهذه العبارة قال الجيلالي 43 سنة معبرا عن السنوات التي قضاها بعض عمال ”الطيميط” بين أكوام ضخمة من النفايات والبلاستيك والنحاس والزجاج والحديد وكل ما يتصوره العقل هنا في هذه الكومة الهائلة من النفايات التي تشبه القمع أو ”اللمبوط”باللهجة الشعبية، لكنه قمع كبير وعميق تحوم حوله النوارس البيضاء وتعيش في قلبها الجرذان والصراصير والأفاعي وغيرها من الحشرات الضارة والخطيرة والسامة· 33 سنة، 25 سنة، 22 سنة، 20 سنة، 17 سنة، هي السنوات المعدودات لعمل الكثيرين هنا في ”مزبلة السمار”، سنوات لا يمكن أن تعد على الأصبع لأنها بعمر شاب تزوج حديثا أو بعمر شاب تحصل على شهادة الليسانس أو بعمر شاب مقبل على اجتياز شهادة الباكالوريا، تخيلوا ما شئتم، فالسنوات قد تمر في لمح البصر ولكن يوميات جامعي النفايات لا تمر مرور الكرام، بل هي صراع يومي على القمامة، أخذ ورد وأحيانا شجار عنيف أدى إلى الموت مثلما جرى في سنة 2003 عندما قتل طفل بعمر الزهور 12 سنة على يد شاب آخر كانا يتنافسان على قمامة من نوع خاص أو تدر الكثير من المال، لأنها عبارة عن حديد وهو يباع بالكيلوغرام· في المزبلة وخصوصا في شهر رمضان الأمر يختلف قليلا عن بقية أيام السنة، النفايات ضخمة، الاستهلاك في ”العالم الآخر” كما أكد الجيلالي القادم من منطقة ”الرمكة” بولاية غيليزان وهي من أفقر بلديات الجزائر، ”نحن هنا في عالم غير عالمك، لا يمكننا الآن أن نستنشق هواء نقيا، لأننا تعودنا على الروائح الكريهة وتعودنا معها على مصاحبة النفايات بكل أنواعها”، يؤكد المتحدث ل”البلاد”بابتسامة بريئة، فهو القادم من أفقر بلدية لا يمكنه سوى أن يأكل ”الخبزة” ويصمت، رغم أنه يعيش في قلب ”قعر” كبير، ويبيت في بيت مشكل من أكوام الخشب والورق المقوى وبعض البلاستيك، حياته أصبحت عبارة عن لهث يومي وراء شاحنات النفايات· الغريب في الأمر في هذا المكان أن الكثيرين ممن استجوبتهم ”البلاد” ويتعدون العشرين شخصا أكدوا أن معيشتهم هنا ”عالم آخر” لا يمكن الخروج منه، ”فالموالفة صعيبة”، على حد تعبير ”سمير 17 سنة”، وصفوه بذلك لأنه قريب جدا من مطار الجزائر الدولي ومن الطريق السريع يشاهدون يوميا المئات بل الآلاف من السيارات الفارهة والحافلات والشاحنات ومواكب الأعراس ومواكب المسؤولين الكبار وحتى موكب رئيس الجمهورية عندما يكون هناك استقبال رئاسي لرئيس أو لمسؤول كبير في دولة أخرى، عالم غير عالمهم، فهم ”خلقوا لجمع النفايات”، كما شدد هذا الشاب الذي لا يتعدى وزنه 40 كيلوغراما وطوله يتجاوز المتر والسبعين سنتيمتر، وببشرة داكنة وبعينين قاتمتين يتحدث بأسى وبحزن شديد، يتضح من خلال نظرته التائهة في أكوام النفايات· تحت درجة حرارة مرتفعة، يضع معظم من استجوبناهم إما ”قبعة”أو قطعة قماش يلفونها حول رأسهم خوفا من ضربة الشمس الحارقة· ورغم العطش والجوع بسبب الصيام في هذا الشهر الفضيل، إلا أنهم يتحدثون ويراقبون قدوم الشاحنات التي جاءت الواحدة تلو الأخرى، فالبضاعة سمينة على حد تعبير جمال 45 سنة، ”آسف سيدتي يجب أن أنصرف العمل ينتظرني”، بهذه العبارة ردد هذا الرجل الذي يشتغل هنا منذ 25 سنة، ربع قرن في منجم النفايات، صحيح أنه منجم مادام عبارة عن مكان للاسترزاق والعيش، بل وأكثر من ذلك فسكانه أو المترددون عليه لا يمكنهم التفريط فيه لأنهم تعودوا على تلك الروائح مثل عمال الفحم، الذين تعودوا على الفحم وروائحه فريثما يخرجون إلى هواء نقي يصبح الأمر غير عادي بالنسبة لهم· العشق المسموح نعم هي نظرية طبيعية، واقعية، العيش في مكان قذر لا يعني الشفقة هنا بالعكس فالأمر عادي بالنسبة للكثيرين لأنهم تعودوا من جهة على مزبلة ”السمار” ومن جهة أخرى لأنهم آمنوا بقدرهم المحتوم بعدما صدت على الكثيرين منهم الأبواب، أبواب الشغل، واللهث وراء الإدارة لجلب حق اسمه ”حق العمل”، خصوصا بالنسبة لأولئك الذين ودعوا مقاعد الدراسة مبكرا، فأمامه أفق بسيط وربما لا آفاق أمامهم، المهم أن يجلبوا في نهاية كل يوم حفنة من الدنانير لإسكات الأفواه الجائعة على حد تعبير جمال القادم من منطقة ”بربار” بولاية خنشلة، من منطقة فقيرة على حد قوله صارع فيها الكثير، بعدما فقد والده وتزوجت والدته ليركب أول قطار بين قسنطينة والعاصمة، كان ذلك قبل ربع قرن، في سنة ,1986 تلك السنة الراسخة في ذهنه عندما وصل إلى محطة ”آغا” ولم يجد ما يأكله سوى قطعة خبز كانت موجودة في قمامة، ومن هنا بدأت قصته مع القمامة· نعم القمامة بالنسبة ل”جمال”هي بداية عشقه للعاصمة ولمزبلة واد السمار، فهي رحلته مع خمس وعشرين سنة من ”العشق المسموح” مع المزبلة· أمراض·· جرائم وتعرية مستوى الجزائريين من الطبيعي أن يقدم هؤلاء مبررات تواجدهم، بل وأكثر من ذلك يصرون على أنهم أصحاء، ولا خوف على صحتهم وحياتهم، مثلما قال الجيلالي الذي أكد أنه أحسن بكثير من عامل آخر في عالمنا نحن أي عالم خارج مزبلة السمار، لكن الحقيقة غير ذلك، حيث يؤكد الدكتور عبد القادر رضوان أن مثل هذه المزابل تتسبب في أمراض مختلفة أولها الأمراض الجلدية، خصوصا مع الاحتكاك اليومي بالنفايات بمختلف أنواعها، فضلا عن استنشاق الهواء غير النقي المليء بمختلف السموم التي تجلبها تعفن النفايات· ويضيف الدكتور رضوان في تصريح ل”البلاد” أن الغازات الناجمة عن احتراق النفايات تؤثر على جسم الإنسان تأثيرا خطيرا، خصوصا خطر أكسيد الكربون على الجهاز التنفسي والقلب بسبب انتقال الأكسيجين للدماغ والقلب والعضلات ومع مرور الوقت والسنوات، يضيف المتحدث، تؤثر بدورها على الجهاز المناعي بل وأكثر من ذلك تعتبر خطيرة إلى حد الموت لأنها تسبب ”السرطان”· وكما سبق وأن أشرنا، فإن هناك جرائم كثيرة وقعت في المفرغة الكبرى، جرائم عالجتها مصالح الدرك التي تعد محطة وملتقى للكثير من الأشياء، كإيجاد أكياس معبأة بأطفال حديثي الولادة وجثث أيضا نقلت في حاويات لا يمكن اكتشافها إلا بعد التنقيب والفرز الذي يقوم به العشرات يوميا وحتى أكياس من المخدرات، فضلا عن محاولات اغتصاب لأطفال في عمر الزهور قد لا تتجاوز أعمارهم 14 سنة، وهو ما يشكل خطرا حقيقيا على هؤلاء خصوصا في هذا المكان، لأن الداخل إليه يعتبر مفقودا والخارج منه يعتبر مولودا رغم صعوبة الخروج منه· كما أن المفرغة تعطي ملامح الأسر الجزائرية وذلك من خلال ما ترميه يوميا في القمامة، فهناك من يرمي الفواكه لم تؤكل منها سوى القليل وهناك من يرمي اللحم وهناك من يرمي أشياء يمكن إعادة بيعها وهناك من يرمي حتى ملابس يمكن استعمالها من جديد وغيرها من أنواع الفضلات المرمية التي تنبئ بأن الكثيرين بل الآلاف يعيشون حياة الرفاهية في عالم بعيد بضعة كيلومترات فقط عن مطار الجزائر وعن منشآت تكبر يوما بعد يوم وعمارات جديدة وطرقات كل يوم تنمو من تحت الأرض· فيما يصارع أولئك يومياتهم بالجري وراء شاحنات تنقل ”الذهب” العفن هناك في ”الطيميط ”· من جهتها، تقول الأستاذة الباحثة في علم الاجتماع بجامعة الجزائر السيدة محلي كريمة في تصريح ل”البلاد” إن الحياة الاجتماعية أجبرت الأطفال وهؤلاء على العمل في وسط المزبلة، مضيفة أن الظروف التي تسببت في التصدع الأسري والاجتماعي من مشكلة السكن والبطالة تجبر الكثيرين على العمل هنا على حساب صحتهم ومستقبلهم فيما حرمتهم الأسرة من فرصة التعلم والذهاب إلى المدرسة والوصول إلى وظائف أحسن· وأضافت محلي أنه أثناء فرز وجمع القمامة يصلون يوميا لإعادة بيعها، فالأمر متعب للغاية وخطير في نفس الوقت فبالإمكان أن يصاب الشخص بسبب قطعة من الحديد، وقطع من الزجاج· وأشارت إلى أنه رغم المأساة التي يعيشها هؤلاء وسط القمامة، إلا أنه في المقابل وحتى في دول العالم أصبحت القمامة تجارة مربحة للكثيرين على حساب الأجساد الصغيرة· ”الطيميط” كلمة متداولة بينهم 33 سنة هي سنوات ”الطيميط”، ”الزوبية” أسماء متعارف عليها في الشارع الجزائري لوصف مزبلة ”السمار”، وتعني لدى الكثيرين الذين كانوا يتحدثون ل”البلاد” بالقول هنا في ”الطيميط”في إشارة للمزبلة، وتعني لديهم المكان الذي يجمع الأشياء المتعفة أو تجميع العفن· بعد الإغلاق والتحويل ماذا بعد العيد؟ من الصعب أن تتحدث معهم عن حياتهم اليومية، وكأنهم أحياء أموات، علاقتهم بالعالم الخارجي هي العودة كل شهرين إلى منازلهم، إلى أسرهم محملين بالزاد، بدنانير معدودات، عودتهم إلى الديار لا تعني أنهم يحملون معهم أموالا ليصرفوها على عائلاتهم، بل عودتهم هي علامة أو محاولة إقناع أنفسهم أنهم أحياء ولديهم أسر ولديهم صفة من صفات البشر وهي العلاقة الإنسانية مع أسرة ولو أسرة مهلهلة قسمتها المشاكل الاجتماعية ودفعتهم للعمل هنا في المزبلة، عودتهم إلى أسرهم ستكون مع عيد الفطر، فليت كل أيام السنة هي ”عيد” يردد محمد 49 سنة ”سأعود إلى أسرتي قبل العيد بسويعات لأرى أولادي وأحمل معي بعض الهدايا، على أمل العودة في ثالث أيام العيد للعمل وعقلي يفكر ماذا سأفعل عندما يتم إغلاق هذه المزبلة وتحويلها إلى مكان آخر وربما سيطردوننا منها”؟ تحقيق: فتيحة زماموش