في هذا الحوار يتحدث الشاعر رابح ظريف عن الشعر والكتابة والحياة، وعن مساره الشعري، وعن تجربته بمهرجان مربد العراقي الذي شارك فيه مؤخراً مع كوكبة من الشعراء العرب. كما تحدث أيضا عن تجربة الكتابة على أكثر من صعيد، فهو الشاعر الذي كانت له تجربة الكتابة الصحفية، كما مارس الكتابة الروائية في آخر عمل صدر له منذ سنوات.. من خلال إصدارتك تعرفنا على رابح الشاعر، ماذا عن رابح الإنسان؟ أحيانا أشبه مسيرتي برجل فقد البحر، وحين وجده سبح انطلاقا من الضفة الأولى، حين وصل إلى الضفة الثانية معتقدا أنها الحلم لم يجدها إلا ضفة كالأولى، وأدرك أن الحلم ليس في الوصول إلى المبتغى.. الحلم هو في الطريق إلى هذا المبتغى..: يرسل البحر موجة ويغني/ لمداه الذي تشكل مني كان أمسي الذي تخليت عنه/ وصباحي الذي تأخر عني لذلك أنصح أصدقائي المقبلين على الحلم أم يعيشوا يومهم لأن اللذة فيه وليست في الآتي، أجمل الأحلام تلك التي لانحققها، أحب أن أجرب أستفز المستحيل، لا يهمني أن أجعل منه ممكنا بقدر ما يهمني أن أحاوله، أؤمن أن الحياة روح وفن والعلم هامش الحياة وليس نصها الرئيسي وإنّ الأمم التي تجاوزتنا تعتمد على الفن وسمو الروح قبل اهتمامها بالعلم الذي كان أوله الحلم، الحلم بالطيران سبق الطائرة، الخوف من السقوط سبق اكتشاف قانون الجاذبية.. والرغبة في التخلص من تعب السير سبق اكتشاف العربة.. كذلك الانتقام والرغبة في القتل سبقت اختراع وسائل الدمار.. المشاعر تسبق العلم والشعر يسبق الحضارة المادية.. ومع كل هذا متأكد جدا أن الفن اكتشاف والشعر اكتشاف وليس خلقا أو إبداعا.. الموسيقى الرائعة والقصيدة الحقيقية والرواية الأجمل توجد في يومياتنا وفي داخلنا وفي الكون.. والنص الشعري الجميل هو جعلك تحس وأنت تتلقاه أنه يصدر من داخلك إلى الخارج.. يجعلك تحس أنك تكتبه وأنت تتلقاه لا تتلقاه فقط.. مثل الموسيقى الرائعة التي تجعلك تشارك المؤلف في اكتشافها من جديد. حدثنا عن ازدواجية الإعلام و الإبداع الأدبي لديك ؟ وماهو الأقرب لذاتك؟ سأبدأ من الوسط.. الأقرب لي هو الشعر.. هو القصيدة لأنه الوسيلة الوحيدة التي تقربني من فهم الكون.. ومن الاقتراب من النص القرآني.. الإعلام هو من جهة مهنة ومن جهة أخرى هو فضاء يتيح لي التقرب من هموم الإنسان البسيطة العادية.. وهي تجعلني قريبا جدا من الإنسان في احتياجاته المادية، الشعر يجعلني قريبا من حاجيات الإنسان الروحية.. أكتب كلما أحسست بحاجة إلى تحديث صفحات الروح. أما مسألة لمن أكتب فهذه إشكالية حقيقية ليست من حيث لمن اكتب إنما كيف أكتب نصا يتجاوز الفئة الواحد ويتعداها إلى مستويات عدة، وأعتقد أن النص الناجح هو ذلك الذي يخاطب مجموعة متباينة من المستويات ولا يتوقف عند خيط واحد من الفهم.. النص الأدبي عليه أن يجمع بين أمرين .. البساطة والعمق.. وهما الوحيدان القادران على أن يتحمل النص الأدبي أكثر من فهم وبالتالي أكثر من قارئ وأكثر من مستوى. هناك من يرى أن كتابة الشعر أصبحت مهنة استرزاق، كيف تراه أنت؟ ليست أبدا كذلك، ربما هي عند الجيل الجديد الذي فتح صفحات إبداعه على بحبوحة مالية وعلى تكريمات عدة، أنا فتحت عيني صغيرا على الشعر أقتص من منحتي الشهرية الجامعية وأستلف المصروف لأستقل تاكسي لحضور ملتقى، صحيح أني اتخذت مؤخرا موقفا بمقاطعة أي نشاط لا يتم فيه تقديم حقوق مادية للشاعر، لكن قبل ذلك لم يكن الشعر وسيلة للاسترزاق.. بالعكس كان الشعر نضالا حقيقيا وتعبا وارتماء في عذابات كثيرة، ثم إنني لا أرى أن مجتمعنا المنبهر بعولمة ”السروال والمنقاشة” يمكنه أن يتصالح مع حقيقته الروحية ويصادق الشعراء، لعدة أسباب من أهمها انتهاء عصر الزعامات الشعرية بانتهاء عصر الزعامات السياسية، العولمة سمحت ببروز طبقة سياسية رديئة وطبقة شعرية أكثر رداءة. وكما قضت على ما يصطلح عليه بالزعامات السياسية قضت أيضا على الزعامات الشعرية، من الصعب ألا أنتظر درويشا أو متنبيا أو نزارا جديدا ومن الصعب أيضا أن أنتظر هواري بومدين أو تشي غيفارا أو تيتو جديد.. علينا أن ننتبه إلى أننا نعيش مرحلة ما قبل الموت الاكلينيكي ستتوقف كل أعضاءنا عن الحركة ونبقى نتفرج فقط.. المجد الآن للمجتمعات والمجتمعات لا تؤمن بالنجاح الشخصي ”القصيدة” بل تؤمن بالنجاح الجماعي ”الرواية”.. الرهان الصعب هو كيف يمكن أن تنجح شاعرا في مجتمع لا يحتاج إلى الشاعر بقدر حاجته إلى السرد ألا ترى أن القارئ يميل إلى النثر العربي أكثر منه إلى الشعر؟ فعلا.. القارئ الآن لا يميل إلى الشعر ميله إلى الرواية كما أشرت سابقا، غير أن هذا ليس صحيا ولا طبيعيا، إنما هو مثل ميل الإنسان العربي إلى استعمال سيارات رباعيات الدفع وقلبه معلق بالجمل والخيل.. النثر وافد على الإنسان العربي مع ما يستورده من حاجيات، النثر حالة عابرة على حياة المواطن العربي، ويجب أن نفرق هنا بين النثر الذي هو سرد جاف، ووصف ميكانيكي للحياة، وبين النثر الشعر الذي وجد مكانه في المجتمعات العربية.. فالكائن العربي كائن حيوي انفعالي متحرك لا يثبت على حركة واحدة، مثل الجملة الفعلية التي تشكل جوهر اللغة العربية.. في النهاية ميل الإنسان إلى النثر لا يعني بالضرورة نفوره من الشعر.. ما أقصى أنواع الظّلم الّتي تراها تمارس في حقّ الشّعر العربي، خصوصا مع مزاحمة التكنولوجيا للقصيدة؟؟ أعتقد أن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة، وبالتالي فإن أقسى ظلم هو الذي يمارسه الشاعر على الشعر وعلى القصيدة، وهو ذلك الذي يمارسه الأديب على النص الشعري.. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الظلم الآخر هو الذي يمارسه المسؤول على الشأن الثقافي وتفضيله للتهريج وثقافة الجسد على الإبداع الروحاني الحقيقي، وأعتقد أننا أمة مجاهدة ومناضلة ولا ينبغي أن نحتفل بانتصاراتنا عن طريق استدعاء راقصات لأنهن سيرقصن فوق منصة سقط لأجلها الشهداء وسالت أودية من الدماء، الرقص عند تلك الأمم التي تحررت بناء على محاضر واتفاقات.. إن كنا فعلا قدمنا شهداء علينا أن نتوقف في محطات تأمل ومساءلة ذاتية.. الشعر والمسرح والرواية والنقاش الثقافي الجاد هو من سيسعد شهداءنا في قبورهم.. نحن نحتفل بالطريقة الخطأ.. ونظلم الشعراء والشهداء ماذا عن لون الغربة والألم، هل سيبقى الخط البياني لأسلوب الشاعر؟ تشاء الصدف كلما انتبهت إلى جهة ما في هذا الكون كلما أحسست أني غريب.. إحساسي بالغربة أجمل ما أملكه سيدتي.. في النهاية نحن عابرون في كلام عابر كما قال درويش.. في الأخير لن نخلد في أي اتجاه ولن نستمر في أي حال وسنعود إلى التراب.. وهنا مشكلة الإنسان الحقيقية.. يريد أن ينظر إلى السماء ولا يحس بالغربة.. لكنه لو نظر أسفل رجليه لما أحس بالغربة.. لو بقي الإنسان منخفضا يعالج الطين ما تفاجأ حين يعود إليه ولما أحس بالخوف من رائحته.. لذا أهديت مجموعتي الشعرية القادمة ب”إلى كل من ينحني لرائحة التراب ولونه فوحدهما قد يحسنان إليه..”. ما دام الإنسان يبحث عن الألفة في عوالم ليست لها علاقة بالتراب.. أو نابعة مثبه من التراب فلن يحس بالألفة أبدا إلا حين يدرك أنه مخلوق بسيط من طين وصلصال.. إلى ماذا يحن رابح ظريف من خلال قصائده؟ القصيدة هي حالة حنين دائمة ومتواصلة ومستمرة حنين لغد جميل وجنين لأمس أجمل، الشاعر كائن روحي لا يمكن أن يرسم استراتيجيات كثيرة، يمكن أن يكون مستشرفا جيدا أو ربما يحدث أن تتمكن منه القصيدة وتمنحه نبوءات اكبر منه.. لكنه في النهاية كائن لا يمكنه أن يخطط. قديشة، أول رواية كتبتها في 2008. ألم يعتريك الخوف من الولوج إلى عالم الأدب النثري؟ طبعا في البداية كان هناك نوع من الرهبة لأنك ستكتب في جنس أدبي أثبت أنه الأكثر جماهيرية وانتشارا.. في الوقت الذي ألج فيه هذا العالم كنت أجر خلفي أذيال الهزيمة ونياشين الانتصار.. الهزيمة لأني لم أستطع أن أجعل من الشعر سيدا والانتصار لأني استطعت أن أثبت وجودي رغم أن الساحة في ذلك الوقت ”ساحة ما قبل الوسائط التكنولوجية” كانت أكثر من صعبة، بل كان من المستحيل أن تحلم بمنصة لائقة خارج الإقامات الجامعية، اذكر أني حين حضرت مؤتمر اتحاد الكتاب وكان عمري أقل من عشرين - سنة 1998 علق أحدهم ”مادام اتحاد الكتاب يدخله الذر فأنا سأنسحب”.. طبعا لم تكن له الجرأة لينسحب لا أمس ولا اليوم، لكني بعد أقل من عشر سنوات انسحبت من الاتحاد وقلت أنه لم يعد يمثلني ولا يعبر عني، في الوقت الذي ما زال فيه هذا الشاعر متمسكا بهذا الهيكل الفارغ حتى وهو مقصي منه.. هذا على سبيل المثال لا الحصر فقط.. عودة إلى سؤالك.. الرواية ممتعة في كتابتها وممتعة في قراءتها، الشعر عذاب في كتابته وعذاب في قراءته..لذا كان لا بد من أن أحس بانتقال لكنه لم يبد غريبا عني أبدا، أحسست وأنا أكتب في قديشة أني أكتب في قصيدة بشكل مختلف.. بل بالعكس، مجموعتي الشعرية الثانية ”فاكهة الجمر” هي نص شعري طويل يسرج قصة حب، وبالتالي لم يكن السرد غريبا عني ولا كنت مختلفا عنه.. بل السرد في حالات كثيرة يكمل القصيدة الشعرية وليس العكس.. الشعر هو سيد الفنون وهو الموجود في كل الحالات الإبداعية، لكن الرواية حين يكتبها شاعر فإن هذا سيمنح القارئ جوا مختلفا تماما عن السرد العادي والجاف. وسيكون إصداري القادم هو مجموعتي الشعرية ”إلى وجهي الذي لا يراني” عن منشورات المكتبة الوطنية بالحامة. هل يمكن لجمالية الشعر أن تجد ضالتها في معترك السياسي؟ يمكن في بلد يتهم فيه رئيس الجمهورية بالإساءة لقطة صغيرة فيستقيل، أما في بلد يقتل فيه الرئيس شعبه ليحمي الكلاب فلا أظن أنه سيكون للشعر جمالية خارج الرفض والثورة. دعيت إلى مهرجان ”مربد” بالبصرة العراقية مؤخراً، حدثنا تلك التجربة؟ طبعا ”المربد” منصة شعرية لها هيبتها وبهاؤها.. المربد سيد المنابر الشعرية، ولقد سعدت كثيرا بهذه الدعوة والتي كانت الشاعرة الجميلة، حنين عمر، أول من أبلغني بها، وهي التي كانت حلقة وصل بيني وبين المهرجان بعد أن عبرت لها عن رغبتي في الحضور في إحدى نقاشاتنا الشعرية، وحضرته مع مجموعة من الشعراء العرب أكثر من 250 شاعر وكاتب و ناقد، حيث دام ثلاثة أيام، ولن أخفيك هناك رغبة في التخلص من المربد العراقي لأنه صدامي وظاهرة صدامية.. الطبعة المقبلة ستعرف استقالة شبه تامة لوزارة الثقافة العراقية من تنظم هذا الحدث واستبداله بأيام بغداد الشعرية، كما أن محافظ البصرة ركز على تسويق صورة البصرة أكثر مما ركز على الشعر العراقي والمربد، والذي كان مقيما بالجزائر قبل سنة 1980.. في اليوم الأول رفضت أن أقيم بفندق متواضع بالبصرة واشترطت عليهم فندق خمس نجوم، وهو ما لاقى استحسان الشعراء العرب الثمانية الذين كانوا معي، تمت تلبية الطلب في حين بقي الآخرون في فندق متواضع جدا بالبصرة. وألقيت قصيدتي ”رباعيات رجل التيه” على منصة المربد أمام جمهور رائع من العراقيين، تلقيت هدية من المقدم أبو الليث من النجف الاشرف، لم يفارقني طيلة المهرجان، سلم لي أناشيد حسينية وصحنا من النحاس منحوتة داخله سورة ياسين.