في إحدى لقاءاتي بالمجاهد المثقف والكاتب سي محمد سعيدي، شفاه الله من مرضه وأعاده إلى نشاطاته الثقافية، قال لي بأنه خلال الثورة التحريرية كان المجاهدون يعلنون بأنه بعد تحرير الجزائر سيقيمون دولة نظيفة من الممارسات الرديئة لسلطات الاحتلال، وأضاف بأن تزوير الانتخابات كان من بين السلوكيات المشينة التي عانت منها الأحزاب والشخصيات الجزائرية إبان تلك الحقبة وقد عاهدنا أنفسنا لما كنا نجاهد قوات الاحتلال، أن نبني دولة لا يمارس فيها التزوير. هكذا قال لي صديقي المجاهد قبل أن يضيف بمرارة كبيرة: لكن يبدو أننا نطبق العكس تماما فنحن حافظنا على كل الأشياء الرديئة التي كانت تمارسها سلطات الاحتلال بالجزائر. قرأت، منذ زمن طويل، في كتاب فرنسي، بأنه خلال الأربعينيات من القرن الماضي، شاعت في أوروبا عبارة "انتخابات على الطريقة الجزائرية" وذلك لأن فرنسا كانت تزور كل الانتخابات التي جرت في الجزائر وتشارك فيها الأحزاب والشخصيات الجزائرية. تذكرت كلمات المجاهد محمد سعيدي والعبارة الأوروبية الشهيرة وأنا أتابع ما يكتب، هذه الأيام، في الصحف وما ينشر من صور وفيديوهات على المواقع الاجتماعية بشبكة الأنترنت حول التزوير الذي شاب العملية الانتخابية الأخيرة، على غرار كل العمليات التي سبقتها، فهي كلها انتخابات على الطريقة الجزائرية. لما نحاول أن نتفحص التزوير كظاهرة اجتماعية فإن أول ما يبرز من نتائجها هو أنها تعرض أمن واستقرار الدولة لأخطار كبيرة منها سيطرة الحثالة من الناس على المناصب والمسؤوليات فعن طريق شراء الذمم يمكن لأي بارون في المخدرات أو التهريب من الفوز في الانتخابات ليصبح يشرع أو يتحكم في مصائر البلديات والولايات والبرلمان. هذا الوضع يجعل الكفاءات الوطنية تنكفئ على نفسها أو تهاجر إلى بلدان أخرى هروبا من الفساد. التزوير يشجع على الفساد بكل أشكاله، لأن الفاسد لا ينشط إلا مع فاسد مثله وبالتالي ماذا ننتظر من برلماني أو رئيس مجلس ولائي أو بلدي وصل إلى المنصب عن طريق التزوير وشراء الذمم؟ ماذا ينتظر من شخص يدفع مبالغ طائلة من أجل الوصول إلى المنصب؟ التزوير يلوث العملية السياسية برمتها، فالمفروض أن الأحزاب السياسية تتبارى حسب البرامج وقوة الإقناع لدفع المواطنين إلى انتخاب الأفضل وعندما يفتقد ذلك فلن يبقى أي دور للأحزاب لأن الأمر كله يتحول إلى نشاط مفسدين في الأرض لا سياسيين. التزوير يجعل المواطن يفقد الثقة في هياكل الدولة فهو (المواطن) يعرف جيدا لمن انتخب ويعرف جيدا المترشحين كما يعرف قيمة كل واحد منهم، ومهما يقال عن الرأي العام الجزائري فلازالت فيه صفة جميلة تتمثل في احترام المتعلم النظيف، وعندما يشاهد بأن المنتخبين هم من الأميين الفاسدين فإنه سيتعامل مع السلطة بسلبية واحتقار. من الناحية الدينية، أعتقد أن سارق الأصوات هو أسوأ من سارق الروح فالثاني قتل فردا أما المزور فيسرق روح أمة كاملة ويعرض أمنها واستقرارها للأخطار لأنه يزرع ثقافة اليأس والإحباط. بعد استعراض كل هذا نتساءل: إلى متى والسلطة تستغفل المواطن الجزائري وتضلله باستغلال الروح الوطنية فيه بحيث أنه في كل مرة يقال له بأن احتياطات معينة اتخذت وأن التزوير غير ممكن فيخرج لأداء واجبه الانتخابي ثم يكتشف بأن الانتخابات زورت وأن الذين فازوا ليسوا هم الذين اختارهم ومع ذلك تنطلي عليه الحيلة مرة أخرى وهكذا. هذه العملية تتكرر منذ بداية التعددية على الأقل. في إحدى خطبه، قال حاكم ليبيا السابق، معمر القذافي، ذات مرة بأن من حسنات الثورة الليبية أنها دمقرطت الواسطة (يقصد بها العلاقة التي توصل إلى مسؤول معين)، أي جعلتها في متناول الجميع بحيث يستطيع أي مواطن ليبي أن يصل إلى أعلى مسؤول إن كانت له واسطة. كلام مضحك حقا لكنه ينطبق أيضا على الوضع الانتخابي في الجزائر: لقد نجحنا في دمقرطة التزوير فلم يعد حكرا على المسؤولين الحكوميين بل حتى أبسط عامل أو حارس في مكتب انتخابي يستطيع أن يزور النتيجة ويساهم في إنجاح بارون من بارونات الفساد ليستمر "الستاتيكو". بالعودة إلى كلام المجاهد محمد سعيدي الوارد أعلاه، نلاحظ بأن الدولة التي حلم بها المجاهدون الحقيقيون والتي دفع الشعب الجزائري آلاف القوافل من الشهداء من أجل إقامتها، هذه الدولة الديمقراطية، العصرية، دولة العدل والعدالة التي تمارس السلطة فيها من طرف كفاءات وطنية شابة تصل أعلى المراتب بالجد والاجتهاد في خدمة المواطنين وفي بناء المؤسسات القوية، هذه الدولة لازالت تفصل بيننا وبينها سنوات طويلة من نضال مستمر ومتواصل يجب أن تخوضه كل القوى الوطنية الصادقة والمخلصة. كل القوى التي تحلم بجزائر جديدة تطيب فيها الحياة لكل أبنائها فلا "يحرقون" البحر هروبا من جحيم الفساد، كل هذه القوى، مهما كانت مشاربها ومهما كانت اتجاهاتها السياسية، مطالبة بالتكاتف وتوحيد الصفوف لمواجهة إخطبوط الفساد الذي استشرى وامتدت أطرافه لتخنقنا وتقطع أنفاسنا. بدون هذا، فالتزوير سيستمر والفساد كذلك، حتى يغرق الجميع في مستنقع لا مخرج منه إلا للذين هرّبوا الملايير إلى البنوك الأجنبية.