ولد بن علي قديفي بمعسكر في 19 سبتمبر 1922، وبها نشأ وتعلم بالمدرسة الفرنسية، حيث سمح له ذكاؤه، بتحصيل ما كان متاحا يومئذ لعامة الأطفال الجزائريين. وبعد أن بلغ سن الرشد، انتقل إلى وهران بحثا عن باب للرزق، وما لبث أن وجد ضالته في تجارة الأقمشة. وغداة الحرب العالمية الثانية، أخذت رياح التحرر تعصف بقوة في مختلف أنحاء الجزائر، فجرت معها الشاب بن علي الذي وجد نفسه في صفوف حزب الشعب الجزائري المحضور، وواجهته الشرعية حركة انتصار الحريات الديمقراطية وما لبث استعداده النضالي وحماسه الوطني، ورفضه القوي للظاهرة الاستعمارية، أن رشحه للإلتحاق ”بالمنظمة الخاصة”، بعد تأسيسها في ربيع 1947. وبفضل هذا الاستعداد دائما، أصبح من رؤساء أفواج فرع المنظمة بوهران، تحت قيادة الشهيد حمو بوتليليس، وبهذه الصفة شارك في عملية بريد وهران، في بداية أبريل 1949. فهو الذي أجّر مسكن أعالي حي قمبيطة الذي جعله المشاركون في العملية قاعدة لهم وآلية استدرجوا الدكتور موتيي صاحب سيارة ”سيتروان 15” التي استعملوها. وقد اعتقل في سياق التحريات التي تلت العملية بعض الوقت، رفقة الحاج بن علا وميسوم بحري.. لكن أفرا عنهم في أواخر نوفمبر من نفس السنة، لعدم توفر القرائن التي تدينهم. غير أن الشرطة استطاعت في مداهمة لاحقة لمنزل قديفي حجز وثائق تتعلق بالمنظمة الخاصة وأهدافها، وكذلك وسائلها لتحقيق هذه الأهداف. وغداة الإعلان عن اكتشاف ”المنظمة السرية”، اعتقل ثانية في 10 مايو 1950، وتمت محاكمته في ”قضية ال 47” الشهيرة، بعدد أعضاء المنظمة المتهمين، وكانت محاكمة صاخبة لأن قديفي ورفاقه كانوا يصرون، سواء أثناء الجلسات أو في طريق نقلهم من المحكمة وإليها، عل ترديد أناشيد الحركة الوطنية، الهتاف بحياة ”حزب الشعب الجزائري”، بل بحياة ”الجيش الوطني”! وتميزت محاكمة قديفي شخصيا، بمحاولة استغلال المحكمة للوثائق التي كانت حجزت في بيته سنة 1949، لذا جاء الحكم عليه في 6 مارس1951 قاسيا إلى حد ما: 4 سنوات سجنا وخمس نفيا ومثلها حرمانا من الحقوق السياسية. بعد أربع سنوات كاملة غادر السجن مريضا مرهقا، منفيا من وهران وأهم مدن العمالة.. فاختار الاستقرار بالبليدة، في نوع من استراحة المحارب مؤقتا. من ضحايا ”البرتقال المر” شنت مصالح أمن الاحتلال غداة فاتح نوفمبر 1954، حملة قمع واسعة باسم ”البرتقال المر”، استهدفت مناضلي ”حركة انتصار الحريات الديمقراطية”، بدون تمييز بين جبهويين ومركزيين ومصاليين، لقد حمل وزير الداخلية آنذاك فرانسوا ميتران هذه الحرك مباشرة مسؤؤلية ما حدث. كان المناضل بن علي قديفي العضو السابق في المنظمة الخاصة بوهران يومئذ، يقضي فترة نفيه بالبليدة، حيث استقر رفقة أسرته الصغيرة، فداهمت الشرطة القضائية مساء فاتح نوفمبر على الساعة التاسعة والنصف مسكنه، الواقع على بعد 50 مترا من مركز هذه الشرطة، اخترق محافظ الشرطة الذي كان يحمل رشاشه حرمة المنزل، وأخرجه عنوة، رغم احتجاج زوجته الحامل في الشهر الخامس. وفي المحافظة تم تفتيشه وإيداعه الحبس، دون أدنى توضيح، وجاء التوضيح بعد قليل من المحافظ ”طوران”، من شرطة استعلامات الجزائر العاصمة الذي وصل لتوه، وقبل أن يشرع في استنطاقه بادر بشتمه وتهديده، قضى في هذه الحالة المضنية المحيرة 24 ساعة، نقل إثرها إلى العاصمة فوجد المحافظ ”أفار” من شرطة الاستعلامات في استقباله، ليسائله حول قادة ”اللجنة الثورية للوحدة والعمل” (1) وأحداث الليلة الماضية. لم يكن لقديفي ما يقول لأنه لم يكن فعلا يعرف شيئا لا عن اللجنة الثورية ولا عن أحداث ليلة فاتح نوفمبر، لم يكن ”أفار” طبعا يصدق ذلك، اعتمادا على سوابق الرجل في المنظمة الخاصة، لذا راح يتوعده قائلا: ”ستنطق في الحمام، من فمك أو من دبرك!”. نقل فورا إلى الحمام، مقيد اليدين والقدمين، وبواسطة خشبة بين القيدين نصب في الحمام، بحيث يغطي الماء النصف العلوي من جسده. تعاون على تعذيبه وهو في تلك الوضعية جلادان يمسك الأول بالخشبة على طرفي الحمام، بينما يغرق الثاني في رأسه في قاع الحمام إلى حد الإختناق طلب إليه قبل البدء بتعذيبه، أن يرفع أصبع يده المقيدة، إذا أراد أن يبوح بشيء ما. عندما يلاحظ الجلاد أنه على وشك الإغماء يخرج رأسه من الحمام، ويقذف بالماء على فمه وأنفه، وتكون خاتمة حصة التعذيب لكمات من الجلادين في البطن والكبد، تكررت هذه العملية تسع ليال، رغم استظهار المعتقل بشهادات طبية ووجود آثار عملية جراحية، كان أجراها بسبب مرض صدري. في اليوم التاسع تم نقله إلى عيادة مجاورة، فسجّل الطبيب بعد فحصه بعض الأدوية، اشتراها بماله الخاص، في اليوم العاشر بدأ يستعيد أنفاسه قليلا، إثر وضعه في الزنزانة رقم 1 بالمحافظة واستفادته من بطانية كغطاء وفراش في آن واحد.. كان أكله طوال هذه الفترة قطعة خبز وجبن، ماجعله يفقد 12 كلم من وزنه، أصبح يزن 44 كلغ! هذه المعلومات سجلها الضحية في رسالة إلى المحامي الفرنسي ”أنري دوزان” بتاريخ 28 يناير 1955، يلتمس منه رفع دعوى على المحافظين ”طوران” و ”أفار” وبعض المفتشين في الإستعلامات العامة، لما تعرض له من عنف وتعذيب، خلال الحجز التعسفي من 1 إلى 15 نوفمبر 1954. بعد كل هذا التعسف، وبدون أية قرينة، تمت محاكمة بن علي قذيفي في العاصمة في 2 مارس 1955 وكان جزاؤه ظلما شهرين حبسا نافذا. وتجنبا لمزيد من الحڤرة، فضل المناضل العنيد بعد الإفراج عنه الهجرة إلى فرنسا مع أسرته، وهناك أيضا وجد قدره النضالي في انتظاره، ضمن اتحادية جبهة التحرير الوطني. استفزاز في ”فران” استأنف المناضل بن علي قديفي بفرنسا، نضاله في سبيل تحرير الجزائر ضمن اتحادية جبهة الحرير الوطني، وبعد نحو عامين من الإقامة والنضال في أرض العدو، اعتقل للمرة الثالثة في 4 يونيو 1957 لم يستسلم هذا المناضل العنيد وهو في قبضة إدارة الاحتلال، كما تدل على ذلك الشواهد الثلاثة التالية: 1 موقفه أثناء محاكمته بباريس في ديسمبر 1958، حيث احتج أولا بصفته ”جزائريا مناضلا في جبهة التحرير الوطني”، على تهمة ”المساس بأمن فرنسا الخارجي” واستدل ثانيا على ذلك بشخصية الجزائر المتميزة، تاريخيا وجغرافيا ولغة ودينا وجنسا ”فالجزائر لم تكن قط جزاء من فرنسا، ولن تكون أبدا”. 2 مشاركته بسجن فران في 18 يونيو 1959 رفقة عدد من الإطارات السجينة (2)، في توجيه رسالة إلى وزير العدل أدمون ميشلي للمطالبة بحقوق السجناء السياسيين وأهمها: فصلهم عن سجناء الحق العام. وضع حد لعنف الحراس. السماح لهم باستقبال الصحافة والطرود. وضع قاعة تحت تصرف السجناء لأداء الصلاة. وضع قاعة لتنظيم دروس في التعليم العام وتضمنت الرسالة إلى جانب هذه المطالب احتجاجا وتنبيها جديا: الاحتجاج على خضوع السجناء إلى نظام الحق العام الذي يتنافى مع أبسط حقوق الإنسان والكرامة، وما يرافق ذلك من إهانات وعنف مادي ومعنوي. التنبيه الجدي يتمثل في شن إضراب ابتداء من نفس اليوم، من أجل الإعتراف بصفة السجناء السياسيين وحقوقهم. وفي صبيحة الجمعة 10 يوليو الموالي شهد سجن فران حادث استفزاز سافر: اعتداء أحد الحراس على المناضل السجين شفيق بن ساسي، متسببا في إصابته بجروح في رأسه. تقدم قديفي رفقة ثلاثة آخرين من لجنة السجن بطلب مقابلة المدير، للاحتجاج على هذا الاعتداء السافر.. فجاء الرد المبيت في منتصف الليل، بتعميم الإعتداء على عدد من العناصر النشطة.. كان قديفي من بين هؤلاء الضحايا طبعا، فبعد تعرضه للضرب والشتم، نقل إلى سجن ”ايتامب” بدون أغراضه التي حجزت في ”فران”. وفي رسالة من سجنه الجديد إلى المحامي عبد الصمت بن عبد الله، يصف ما وقع له كما يلي: نقلت بطريقة عسكرية مقيد اليدين والقديمين رفقة الأخ السوامي.. فلما وصلنا تم فصلنا بحبس كل واحد في زنزانته، وفرض علينا نفس النظام حتى أثناء جولة الإستراحة، هذا النظام لا يتنافى مع صفة السجين السياسي وحسب، بل مع صفة الإنسان باختصار حسب قوله. ويلتمس من المحامي بالمناسبة أن يوجه إلى السلطات القضائية احتجاجا شديد اللهجة، على ”الأساليب الدنيئة” التي تستعمل ضده ورفاقه في سجن ”ايتامب”.. ويرجوه أخيرا أن يتدخل لدى مدير سجن فران كي يفرج عن أغراضه، ويرسلها إليه في أحسن الآجال.. داخل بن علي قديفي السجن غداة فاتح نوفمبر 54، وهو في حالة صحية سيئة كما سبقت لإشارة.. وأفرج عنه في سبتمبر 1961، لأسباب صحية كذلك، فدخل فورا مستشفى ”كوشان” للعلاج.. كان الكثير من المناضلين الأشداء أمثاله ما إن يفرج عنهم أو يغادرون المستشفى، حتى يعتقلون من جديد بأحد المحتشدات، في ظل حبس إداري لا نهاية له! خشي نزيل ”كوشان” من هذا المآل، فاستنجد بشبكات اتحادية الجبهة بفرنسا، لتهريبه من المستشفى إلى المغرب مباشرة.. وكان له ذلك، في أجواء بداية الاتصالات السرية الجادة مع الفرنسيين التي توجت في نهاية المطاف باتفاقيات ايفيان ونهاية الحرب قبل 51 سنة، فاتحة بذلك عهدا جديدا أمام المناضل العنيد بن علي قديفي، وعامة الشعب الجزائري.. (1) يعني ذلك أن مصالح الأمن لم تكن تعرف شيئا بعد عن جبهة التحرير الوطني مفجرة الثورة. (2) من شركائه في الرسالة عناصر قيادية معروفة منها البشير بومعزة وموسى قبايلي.