كتبت المقال أدناه قبل أكثر من أربع سنوات وأرسلته لإحدى الجرائد الجزائرية التي برمجت نشره غير أنها تراجعت عن ذلك لكون الرئاسة أعلنت، في نفس تلك الفترة، عن تعديل الدستور بما يسمح للرئيس بوتفليقة الترشح لعهدة ثالثة وبالتالي أصبح محتوى المقال لا معنى له (كاديك) في ذلك الوقت. اليوم، وفي جو شبيه بجو ما قبل انتخابات العهدة الثالثة، أرى أن المقال يصلح للنشر لأننا، في الجزائر، ننتمي لأمة يتكرر عندها التاريخ باستمرار ولا تستفيد أبدا من الأحداث والوقائع. المعروف عن رئيس الجمهورية أنه مولع بالقراءة، ومطلع على الأحداث ورجالاتها، وهو بذلك يدرك جيدا أن صفحات التاريخ لا تخلد إلا العباقرة والعظماء من الرجال الذين حققوا إنجازات لشعوبهم أو للإنسانية. بوتفليقة، عاصر، وعرف عن قرب، بعض كبار القرن العشرين الذين أثروا في الأحداث، مثل: جمال عبد الناصر، شارل ديغول، هواري بومدين، تيتو، نيلسون مانديلا... إلخ. هؤلاء دخلوا التاريخ، لأنهم إما برهنوا عبر العديد من المواقف والقرارات التي اتخذوها، أنهم كانوا صادقين مع شعوبهم، أو تميزوا بملكة قراءة المستقبل قبل حدوثه مما مكنهم من اتخاذ قرارات استباقية جريئة أنقذت بلدانهم من الدمار الذي كان سيلحق بها لو استمرت في تجاهل الواقع، أو تمكنوا بحنكتهم من توحيد شعوبهم.. قد يكون من هؤلاء من ارتكب أخطاء، بعضها فادحة، ومع ذلك فإن التاريخ يسجل الجيد والرديء لكنه ينصف الصادقين والمخلصين من الرجال. الرئيس بوتفليقة يدرك كل هذا، كما يدرك جيدا أنه لو يقرر عدم الترشح لعهدة ثالثة فسيدخل التاريخ من بابه الواسع، لأنه سيكون صاحب إنجاز عظيم، إذ يبرهن عن وفائه التام للعهد الذي قطعه أمام الشعب بأن يحترم الدستور، ويبرهن بذلك أيضا على إيمانه بضرورة نقل السلطة إلى جيل الاستقلال؛ ولا شك أن ذلك ما أراد قوله في تدخله، في جويلية الماضي بوزارة الدفاع الوطني، حيث قال إن الوقت قد حان لتسليم المشعل للشباب. لو يحقق بوتفليقة هذا الإنجاز التاريخي يكون فعلا حالة نادرة في هذا العالم العربي؛ وسيسجل له أنه حقق على الأقل المصالحة الوطنية بين أبناء الشعب، وأنه جسد فعلا مبدأ التداول على السلطة. لا شك أن بوتفليقة الذي يدرك هذه الحقائق يعاني في نفس الوقت من ضغط الحاشية التي تعمل بكل الوسائل لدفعه إلى البقاء في الحكم. مطالب أفراد الحاشية ليست مبررة بحبهم وتعلقهم بشخص بوتفليقة بالذات. هؤلاء يريدون استمرار الوضع الحالي الذي يعني عدم حدوث التغيير الذي ينتظره الشعب الجزائري منذ أكثر من عقدين من الزمن. بعد أحدث أكتوبر 1988، اعتقد الكثير بأن التغيير آت لا محالة، وكانت كل الأصوات تردد أن ”لا شيء سيبقى على حاله”، لكن هذه الأحداث تمخضت عن دماء وإجرام وقتل وتدمير دام سنوات عديدة. ولما جاء عبد العزيز بوتفليقة وراح يتحدث عن المصالحة الوطنية اعتقد الكثير أن التغيير سيحدث مباشرة بعد تطبيق قوانين المصالحة؛ لكن التغيير لم يحدث؛ بل استيقظ الناس والصحافة المكتوبة تطلعهم يوميا على الأرقام المذهلة من الملايير التي تسرق من البنوك والمؤسسات العمومية؛ والمئات من الشبان الذين ينتحرون في البحر وعلى ظاهرة الفقر التي تتسع رقعتها كل يوم أكثر والمئات الذين يثورون هنا وهناك... كل هذا ليس لأن الرئيس فشل في إنقاذ الجزائر من ورطاتها الكثيرة والتي لا تعد، بل وبكل بساطة لأنه أحاط نفسه بحاشية تقف ضد كل تغيير إيجابي لأنه لا يخدم مصالحها. هذه الحاشية لجأت للضغط على الرئيس من خلال حملة هدفت إلى إقناعه بأن الشعب الجزائري كله، وبمختلف فئاته متمسك به، ومن بين ما ردد من طرف مرتزقة الكلام هو أن بوتفليقة ملزم بالترشح لعهدة ثالثة لأنه لا يوجد أي أحد لقيادة الجزائر في الوقت الراهن. هؤلاء القوم لا يدركون بأنهم بكلامهم هذا يمسون بسمعة رئيس الجمهورية وقيمة الشعب الجزائري وشرف المرأة الجزائرية. هم يمسون بسمعة الرئيس لأن المعروف، في ممارسة الحكم، أن الحاكم الواعي والمخلص لشعبه يهتم أساسا من بين ما يهتم به، باحترام ميكانيزمات انتقال السلطة، في أي وقت، بطريقة آمنة وسليمة، وبالتالي فهم عندما يقولون مثل هذا الكلام لا يدركون أنهم بذلك يشيرون بغباوة إلى أن بوتفليقة لم يفكر خلال التسع سنوات التي قضاها في السلطة في من سيخلفه وكيف سيخلفه. إنهم يهينون الشعب الجزائري بكلامهم هذا الذي يعني أن اثنين وثلاثين مليون جزائري هم كلهم قصر ولا أحد فيهم يستطيع قيادة البلاد، وهذا معناه أيضا إقرارا بفشل كل الطبقة السياسية الجزائرية بأحزابها وجمعياتها ومتعلميها. إنهم يهينون المرأة الجزائرية، لأن ذلك معناه أن أكثر من ثمانية عشر مليون امرأة جزائرية لم يتمكن من أن يلدن رجلا يصلح لقيادة الجزائر، إنه إقرار من طرفهم، بإفلاس الجزائر.