تقول الحكمة الإفريقية: ”إن الفم الذي يأكل لا يتكلم”. هذه الحكمة تنطبق تماما على أغلبية الجزائريين بمسؤوليهم ومثقفيهم ورؤساء أحزابهم وجمعياتهم، فالكل يأكل وكل واحد يأكل بطريقته وحسب ما توفر له وما استطاع الوصول إليه. الكل يأكل خارج القانون: من الشاب الذي استولى على جزء من الرصيف ليفرض إتاوة على كل من يوقف سيارته إلى المسؤول الذي يمنح، أو يتدخل لمنح، صفقة لشركة معينة مقابل نسبة من مبلغ الصفقة. هذا الوضع يجعل الكل يتحكم في الكل، أي أن كل الفاسدين يتحكمون في بعضهم البعض وكل فاسد يدرك بأن كل المسؤولين، إلا من عفا ربك، فاسدون مثله لهذا لم يعد أحد يخشى أحدا، ولم يعد أي مرؤوس يتحرج في المطالبة ”بحقه” من الصفقة أو من المال العام. روى لي صديق كان دعي، منذ عدة سنوات، للمشاركة في ندوة بالمغرب، وفي أمسية اليوم الثاني من الملتقى برمجت للمشاركين زيارة إلى شاطئ الدار البيضاء حيث لاحظ وجود مساحات فسيحة شاغرة فقال مازحا لأستاذ مغربي كان يرافقهم: ”ماذا يجري عندكم؟ هل مافيا العقار في المغرب رحيمة بالبلد إلى حد ترك مثل هذه القطعة الفسيحة والجميلة على شاطئ البحر بدون استغلال؟”. فرد الأستاذ المغربي الذي سبق له أن زار الجزائر العديد من المرات وتربطه بها علاقات وطيدة مع الكثير من المثقفين قائلا: ”يا سيدي الفرق بين مافيانا في المغرب ومافياكم في الجزائر هو أنه عندنا في المغرب يوجد سقف لكل شيء، والسقف يحدده الملك، فعندما يأخذ هذا الأخير عشرة آلاف متر مربع في مدينة ما فلا أحد يتجرأ ويأخذ مثله أو أكثر منه؛ وعندما يأخذ الملك نسبة عمولة معينة، وهي معلومة لدى الجميع، من المشاريع الكبرى التي تنجز في المغرب، فلا أحد من المسؤولين يتجرأ ويأخذ عمولة أكبر من المشاريع المتوسطة والصغيرة التي يأنف الملك النزول إلى مستواها وإلا فإن الملك يدمره لأنه يعلم بكل صغيرة وكبيرة ويعرف كم أخذ كل مسؤول من كل مشروع أو صفقة”. الأستاذ المغربي أضاف لصاحبي قائلا له: ”هذا كل الفرق بين المافيا الجزائرية والمافيا المغربية”. لا أدري مدى صحة كلام الأستاذ المغربي، لكن المؤكد هو أنه إذا كان الملك، في المغرب، يعرف كل شيء عن المسؤولين المغاربة وكم أخذ كل واحد من عمولات ورشوة فإن الشعب الجزائري يعرف كل شيء عن المسؤولين الجزائريين ويعرف أيضا كم أخذ كل مسؤول من قطع أرضية ومن سكنات اجتماعية وحتى المبالغ المالية التي أخذها كعمولات ورشاوى مقابل ”التسهيلات” التي يقدمها للشركات الجزائرية أو الأجنبية المنجزة للمشاريع العمومية. أقول كل الشعب يعرف لأن كل الناس تتكلم: من السائق إلى البواب إلى الحارس... إلخ. والذين يعتقدون بأن ممارساتهم واختلاساتهم وفسادهم (من المالي إلى الأخلاقي) لم تصل إلى الرأي العام هم واهمون وعليهم أن يعلموا بأنهم يسيرون عراة تماما أمام المواطنين. لا توجد حدود لانتقال المعلومة الخاصة بالمسؤولين، في وقت سريع، بين المواطنين، ومهما كانت نسبة الخطأ والتعتيم والتضليل التي ترافق عملية انتقال المعلومة إلا أن جزءا منها يبقى صحيحا، كما أن تأثيرها على الرأي العام كبير جدا؛ فقد رأينا كيف أن بعض المسؤولين الذين اشتهروا، في السنوات الأولى من حكم بوتفليقة، بكفاءتهم ونشاطهم وأخلاقهم العالية وأصبح المواطن البسيط يتعلق بهم ويرى فيهم نموذجا للإطار الجزائري النظيف والنزيه والخادم للشعب، رأينا كيف اسودت صورتهم في أعين الناس بمجرد أن بدأ هؤلاء في التعامل، في القطاعات التي تولوا مسؤولياتها، بنفس طريقة المسؤولين الفاسدين واتضح فيما بعد أنهم فقدوا عذريتهم وأخلاقهم وباعوا مبادئهم. ولأن الفم الذي يأكل لا يتكلم، فالفساد هو سبب صيام النخب عن الكلام. فكل من أكل، ولو ”خبزة” واحدة حراما، لا يحق له الكلام. وبما أن الكل أكل، سواء قليلا أو كثيرا، فيصبح الكل فاقدا للمصداقية وللحق في النقد وحتى في مجرد التفكير في تولي منصب القاضي الأول في البلاد؛ وعليه فإن مطلب الشعب اليوم هو: البحث عن رئيس لم يأكل من رغيف الحرام حتى يستطيع أن يتحدى كل الأفواه الشرهة ويصفي البلد من الفساد ويعيد للجزائر قيمتها وللأخلاق مكانتها؛ باختصار: الجزائر تحتاج اليوم لرجل فيه شيء من أخلاق أولئك الذين كانوا يحملون الأكياس المملوءة بأموال الثورة وينتقلون بها من الحدود إلى الحدود وهم جياع ولا يمدون أيديهم لفلس واحد منها. هذا المطلوب في كل من يفكر في الترشح للرئاسيات المقبلة. ليتقدم كل من يرى، ويرى الشعب معه، أنه تتوفر فيه هذه الصفة وسيلتف حوله ويحمله، عن طريق صندوق يحميه من التزوير بكل ما أوتي من قوة، إلى رئاسة الجمهورية لينقذ الجزائر من المافيا بكل أشكالها وكيفما كانت: بسقف أو بدونه.