نعم نحن يتامى بومدين، يتامى الجزائر التي كانت تسيرها الطموحات والتحديات، يتامى جزائر الأمل والهامات المرفوعة. نحن ثمرة سياسة بومدين، وفلسفته في الحياة، حلوها ومرها. لولا بومدين لما عرف الكثيرون نعمة العلم ولا عرفوا قيمة الحياة أصلا. مثل هذا الطفل الذي كان يرعى الأغنام بأعالي المسيلة، وكان سيكون مصيره أن يبقى راعيا، أو في أحسن الأحوال عامل نظافة في مدينة ما من مدن الجزائر، لولا أن موكب الرئيس الراحل بومدين مر من هنا، وشاهد الطفل يقود أغنامه، وكان من المفروض في جزائر الاستقلال أن يكون في المدرسة، يتعلم ما حرم منه أجداده زمن الظلام الاستعماري. أوقف “السيد” موكبه واتجه صوب الصبي وسأله لماذا لا يذهب إلى المدرسة، فرد بأنه لم يلتحق بالمدرسة لا أدري لقلة إمكانيات أم لسبب ما. فأمر الرئيس بتمدرسه على الفور، وقال له عليك أن تدرس وتنجح، أنا أتوقع لك مستقبلا مهما. فدخل الصبي المدرسة وصوت الرئيس يطن في أذنيه، رافعا التحدي إلى أعلى درجة، وبالفعل نجح. وهو اليوم البروفيسور بختي، أخصائي في أمراض النساء والتوليد بالبليدة. القصة روتها صديقة على جدارها على الفايس بوك، سمعتها من المعني نفسه، وهي اليوم اعتراف للرجل بخصلة من خصاله الجمة. نعم، نحن يتامى هذه المرحلة، وسنظل يتامى سنوات أو عقود أخرى، إلى أن يأتي من ينزع عنا ثوب الحداد، حداد استمر 35 سنة، فكل سنة تمر نتقهقر درجات إلى الوراء وكل سنة نتذكر مع هذه الذكرى كم كانت خسارتنا فادحة. أتذكر دموع المرحومة أمي، وهي تبكي بومدين، وتقول أنا أبكي فقدان من فتح الثانويات والجامعات، ومكّن بناتي من الدراسة وضمن مستقبلهن. تقول هذا ردا على قريبتها التي لامتها عن بكاء رئيس لم يوفر لنا حتى سكنا يضم أسرتنا. ليقولوا عنه ما شاءوا، كان دكتاتورا أو متسلطا، أو استأثر بالحكم وأبعد من هم أفضل منه جهادا، لا يهم، “ففي الحرب مثلما في الحرب”، على حد المثل الأجنبي، وصراع الحكم أبشع أنواع الحروب، فاز فيها بومدين بفضل ذكائه، لكن من حظنا نحن أبناء الشعب البسيط، أن الذي فاز في معارك الوصول إلى السلطة هو بومدين وليس شخصا آخر، بومدين ابن الفلاح الذي كان ينام الليالي على “لحمه بطنه” وسار حافيا، وأكل البرد من جلده مأكلا، أجبر وهو طفل على ترك حضن أمه الدافئ إلى بيوت غرباء في المدينة من أجل العلم فعرف قيمة العلم، ومآسي الإنسان، بل عرف معاناة الفلاحين والفقراء، فصارع وتسابق إلى الحكم من أجلهم، حتى لا ينام طفل دون طعام، ولا يسير آخر حافيا عاريا، من أجل الفلاحين والمساكين والفقراء، قام بما قام به، أخطأ فيما أخطأ، وأصاب في الكثير من خياراته. لم يكن فيلسوفا، ولا ادعى النبوة، ولا أراد للتاريخ أن يذكره كزعيم يعبده شعبه. كان فقط لسان الفقراء وصوتهم بين ذئاب لئيمة، ذئاب أتت على حلمه وعلى أحلامنا والتهمته في عز العطاء. نعم، نحن أيتام بومدين الزعيم الذي لم تنجب بطن الجزائر مثله.. وما البقية إلا نسخ باهتة؟!