قال أحد الصالحين: ”اعلم أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هى المنزلة التى يتنافس فيها المتنافسون، وإليها يشخص العاملون، وعليها يتفانى المحبون، وبروح نسيمها يتروَّح العابدون.. فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون.. وهي الحياة التى من حُرِمها فهو من جملة الأموات، والنور الذى مَن فَقَده فهو فى بحار الظلمات.. وهى روح الإيمان والأعمال والأحوال والمقامات.. وإذا كان الإنسان يحب مَن منحه فى دنياه مرة أو مرتين معروفًا فانيًا منقطعًا، أواستنقذه من مهلكة أو مضرة لا تدوم، فما بالك بمن منحه مِنحًا لا تبيد ولا تزول، ووقاه من العذاب الأليم مالا يفنى ولا يحول؟.. وإذا كان المرء يحب غيره على ما فيه من صورة جميلة، وسيرة حميدة، فكيف بهذا النبى الكريم والرسول العظيم، الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم، المانح لنا جوامع المكارم والفضل العميم؟.. فقد منحنا الله به منح الدنيا والآخرة، وأسبغ علينا نعمه باطنة وظاهرة، فاستحق صلى الله عليه وسلم أن يكون حظه من محبتنا له أوفى وأزكى من محبتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا والناس أجمعين.. بل لو كان فى منبت كلِّ شعرة منا محبة تامة له صلى الله عليه وسلم، لكان ذلك بعض ما يستحقه علينا.. روى البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ”لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”. ولن يبلغ أحد درجة الصديق الأعظم أبى بكر رضى الله عنه فى مقدار محبته للنبى صلى الله عليه وسلم، ولا يقترب منها.. فهى مكانته التى اختصه الله بها.. لذلك كان أعلى الأمة إيمانا.. لو وُزن إيمان الأمة بإيمان أبى بكر لرجح إيمان أبى بكر. فى أيام الإسلام الأولى بمكة ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكى يأذن لأصحابه بالجهر بالدعوة للإسلام وهم لا يزالون قليل مستضعفون فى الأرض فلما أذن صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر خطيبًا يدعو إلى الله ورسوله. فثار المشركون على المسلمين، وضربوهم فى أنحاء المسجد، وخُص أبو بكر يومئذ بأوفر نصيب من الضرب. تقول أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها فى وصف ذلك: ”ووُطئ أبو بكر وضُرب ضربًا شديدًا.. حتى ما يُعرف وجههه من أنفه، وجاء بنو تيم (قوم أبى بكر) يتعادون، فأجلت المشركين عن أبى بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر فى ثوب حتى أدخلوه منزله وهم لا يشكون فى موته. ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلنّ عتبة بن ربيعة (الذى كان أكثرهم ضربًا له)”. وتسترسل أم المؤمنين فى حديثها قائلة: ”فرجعوا (أى بنو تيم) إلى أبى بكر، فجعل أبو قحافة (أبوه) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب فتكلّم آخر النهار”. تُرى أى كلام خرج من فم أبى بكر عندما عادت إليه روحه؟ هل طلب ماءً أو شيئًا من الأشياء؟ هل اشتكى وتوجع؟ من كثرة ما ألمّ به من الجراح والكدمات؟ هل دعا على قريش أو على عتبة بن ربيعة؟ إن شيئا من هذا لم يحدث، ولكنه بمجرد أن أفاق قال: ما فعل رسول الله؟! كانت مفاجأة وأي مفاجأة لأهله وعشيرته حتى أنهم نالوه بألسنتهم وانصرفوا عنه وهم غاضبون. ”ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظرى أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه. فلما خلت به ألحّت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه.. فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك. قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دَنِفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإنى لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: هذه أمّك تسمع. قال: فلا شىء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: فى دار ابن الأرقم. قال: فإن لله علىّ أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابًا أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم”. الله أكبر يا أبا بكر.. لقد كان كافيك هذا اليوم لتنال عند الله ورسوله، وعند المؤمنين ما نلت! ثم تكمل السيدة عائشة رضى الله عنها الخبر إلى نهايته السعيدة فتقول: ”فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس خرجتا يتكىء عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكبّ عليه رسول الله فقبّله، وأكبّ عليه المسلمون، ورقّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّة شديدة. فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بى بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برّة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاها إلى الله فأسلمت”. [حياة الصحابة2/380] ***** ويوم الهجرة ما إن علم من النبى صلى الله عليه وسلم أن الله قد أذن له فى الهجرة حتى بادر إليه يقول: الصحبة يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: ”الصحبة”. تقول السيدة عائشة رضى الله عنها: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكى. هذا مع أنه يعلم جيدًا ما يكتنف هذه الرحلة من أخطار، لكنه حرص على الصحبة لعله يقى حبيبه بروحه. ليس هذا فحسب، بل لقد أخذ معه فى هذه الرحلة ماله كله حتى أنه لم يترك بالبيت شىء منه لأولاده وأهل بيته، وفيهم أبوه الشيخ الكبير!! تقول ابنته السيدة أسماء رضى الله عنها: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر رضى الله عنه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم فانطلق بها معه. قالت: فدخل علينا جدِّي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إنى لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قالت: - قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا. قالت: - وأخذت أحجارًا فوضعتها فى كوّة فى البيت الذى كان أبى يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحْسَن، وفى هذا بَلاغٌ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئًا، ولكن أردت أن أُسَكِّن الشيخ بذلك”. [حياة الصحابة2/163] * * * هل هذا فعل أحد يرى مع الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ مخلوق آخر فى الكون؟ إنه شغله وشاغله، وكل همه بالليل والنهار حتى نسى نفسه، وغاب عنها بالكلية.. قيل إن للمحبة ظاهر وباطن، ظاهرها اتباع رضى المحبوب، وباطنها أن يكون مفتونًا بالحبيب عن كل شىء فلا يبقى فيه بقية لغيره ولا لنفسه. تلك هى درجة المحبة التى تربع على ذروتها أبو بكر الصدِّيق.. لم يشاركه فيها أحد.