تطورات المواجهة مع “خلافة البغدادي” أو “داعش” (وتسميات ما أنزل الله بها من سلطان لإرهابيين بطموحات كلونيالية للتحكم في مناطق مصادر الثروة) وتراجع التنظيم في مناطق، وتقدمه في أخرى، وأولوية أهداف طيران التحالف، تطرح أسئلة لعل أهمها: هل للتحالف استراتيجية واضحة لتحقيق الأهداف المعلنة “منع تقدم داعش، ثم محاصرته، ثم القضاء عليه”؟ ومن هم راسمو هذه الاستراتيجية وسبل تنفيذها؟ من مراقبة التطورات، وسير العمليات العسكرية، واستقصاء آراء الخبراء، والمواقف غير الواضحة (بل المتناقضة) لبعض بلدان التحالف، تبدو الإجابة لا. زعيم العالم الحر، الرئيس الأميركي باراك أوباما، ليس لديه استراتيجية واضحة، وأشك في جدية نواياه، في القضاء على هذه التنظيم الشيطاني. ما معنى أن تشارك دولة في التحالف، كقطر، عبر سماحها باستخدام القواعد العسكرية الجوية الأميركية فيها، بينما ينشط منظرو “داعش” وزعماؤه السياسيون في جمع الأموال وتلقي الدعم السياسي على أرضها؟ (وزير الدفاع البريطاني الأسبق السير مالكوم ريفكند، نائب مجلس العموم عن كينسينغتون وتشيلسي، طالب عبر الصحف بفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية عليها)؛ وكذلك حال تركيا (حتى تصويت برلمانها قبل ثلاثة أيام على التصدي ل”داعش”، وذلك فقط بعد تهديد حدودها الجنوبية). في الأسبوع نفسه، انتقدت الصحف التركية الرئيس رجب طيب إردوغان لقبوله فتح مكتب اتصالات (بدرجة قنصلية) يمثل “داعش” في إسطنبول، وهي أيضا مقر تحالف التنظيم الدولي الإرهابي لجماعة الإخوان المسلمين، أصل البلاء ورحم مولد النظرية الفكرية العقائدية ل”داعش” و”القاعدة” وأمثالهما (وتركيا مثل قطر أيضا في هذا الشأن). لم يكن “داعش” ليتمكن من النمو السريع بلا تدفق مئات المقاتلين الأجانب عبر حدود تركيا إلى سوريا، بينما يمنع حرس حدود إردوغان الأكراد من عبور الحدود لمقاتلة “داعش” والدفاع عن إخوانهم في سوريا؟ (مع تباطؤ الاستجابة لاستنجادات أكراد سوريا قرب الحدود التركية). صحف تركيا وتياراتها السياسية المدنية تنتقد حكومة إردوغان في السماح لزعماء “داعش” بالتحرك بحرية والإقامة في فنادق جنوبتركيا وجمع الأموال وتهريبها واستقبال المتطوعين. في الوقت نفسه، لم يسمح إردوغان بتحليق طيران التحالف من قاعدة حلف الأطلسي في تركيا (طول مسافة الطيران من قبرص والإمارات وقطر والسعودية بالنسبة لحاملات الطائرات لا يمنح الطيارين سوى بضع دقائق فقط فوق أهداف “داعش” المتحركة، بينما الطيران من تركيا يعطيهم قرابة ثلث الساعة فوق تجمعات وقوات “داعش” لاصطيادها). وما معنى أن العراق يرفض مشاركة القوات العربية وضربات الطيران العربية؛ ويريد فقط الأميركيين والإنجليز والفرنسيين؟ وإلى جانب الخطأ العسكري التكتيكي الفادح في هذه الخطوة، فإن الحركة دعائية استراتيجية هائلة لخلافة الإرهاب، لتصور الجماعات المتطرفة و”الإخوان” الأمر كمواجهة بين الصليبيين الغربيين وبين الإسلام السياسي و”داعش” كممثلين للمسلمين. خطأ يقلل من القوة الدعائية والألم السياسي النفسي ل”الشلوت” المهين التي أنزلته الطيارة الإماراتية مريم المنصوري على أدبار إرهابيي البغدادي - أو الخليفة إبراهيم حسب اليافطة الكوميدية التي لصقها على جبهته - بكارت بوستال قنبلة الليزر “نهاركم سعيد يا جدعان داعش من امرأة قصفتكم”. أما أولوية أهداف الطيران فتطرح أسئلة.. أكراد سوريا المحاصرون لا يزالون “في انتظار غودو الطائر” ليخفف ضغوط “داعش”، وكذلك المدافعون عن بغداد، فتقصف الطائرات الأميركية آبار بترول، ومعامل تكرير (ممتلكات ومنشآت الشعب العراقي) “لحرمان (داعش) من مداخيل البترول”. وماذا عن التمويل من أو عبر تركيا؟ “داعش” لا يملك أقمارا صناعية، أو أجهزة دولة، أو سلاح طيران، أو يتحكم في موانئ يحرك منها أساطيل. مهزلة إذا لم يستطع تحالف من ست دول عربية، وأربعة من بلدان حلف الأطلسي، وثلاث قوى غربية، أن يستأصل هذه الظاهرة الشيطانية. صور طوابير القوات الميكانيكية ل”داعش” (قبل استيلائها على أسلحة أميركية من الموصل) من مئات سيارات وشاحنات “بيك أب” البيضاء جديدة تماما. من دفع الفاتورة بالملايين؟ من وضع فوقها المدفعية 33 مم؟ عبر أي حدود جاءت وفي أي ميناء نزلت الشحنة القادمة من مصانع “تويوتا” اليابانية؟ الأقمار الصناعية الأميركية تصور كل بقعة على الأرض، ولا شك التقطت صور وصول الشحنة: ميناء في شمال سوريا (من المستحيل أن تكون نزلت في البصرة) أو عبر ميناء تركي! هذا من ناحية التحالف السياسي، ومدى “تعاون” الحلفاء المشاركين، وإذا كانت هناك حلقات مفقودة أو حلقات هشة في سلسلة التعاون، فلا جدية في قتال “داعش” بلا إصلاح هذه الحلقات. من ناحية العمليات الاستراتيجية العسكرية فلا توجد في كتب التاريخ حرب كسبها طرف باستخدام القوات الجوية فقط. الطيران عامل تكتيكي مهم (كقنبلتي هيروشيما وناغازاكي لإقناع اليابانيين بالتسليم، أو بإغلاق طرق تقدم أو تعطيل إمدادات السكة الحديد وغيرها). صاروخ “الكروز” ثمنه مليون دولار، وقنبلة الليزر الموجهة 500 رطل ثمنها 700 ألف دولار، والهدف لكليهما قيمته أقل من 25 ألف دولار (بيك أب تِرّكْ تويوتا بمدفع 33 مم). اللورد دانات، واللورد ريتشاردز (قائدا أركان القوات البريطانية المتقاعدان، ومعهما جميع الخبراء العسكريين) يلحان على القيادات السياسية بضرورة إنشاء تحالف من قوات أرضية لاستئصال “داعش”. من ناحية بريطانيا وأوروبا الأمر حساس لرفض الناخب إرسال قوات أرضية (تصويت مجلس العموم واضح في تحديد المهام ورفض تحليق مقاتلات سلاح الجو الملكي الثماني المشاركة في أجواء سوريا). بغداد، بضغوط إيران، قد يصعب قبولها قرارا سياسيا بوجود قوات تحالف عربي مشترك، وإن كانت ترحب بوجود خبراء بريطانيين وضباط بحكم تاريخ تأسيس الجيش العراقي على أيد بريطانية في العشرينات. الخطوة الجادة الضغط على تركيا للمشاركة عسكريا في منطقة حدودها لمحاصرة “داعش” وقطع الإمدادات عنه. على العرب التفكير جديا في تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك الموقعة عام 1964 لإرسال قوات عربية، والسبيل عبر الأردن (سوريا كدولة موقعة على المعاهدة، والجامعة عضويتها دول وليست حكومات). المعاهدة نفسها استخدمت كسند قانوني من قبل، في لبنان في السبعينات وفي تأسيس التحالف العربي في مؤتمر قمة القاهرة الطارئة في أغسطس (آب) 1990 عقب احتلال صدام للكويت، وكانت نواة تحالف تحرير الكويت. حان الوقت لأن تواجه الجامعة العربية مسؤولية تحد تاريخي لتعيد الثقة بها والتي تبدو مفقودة على المستويين السياسي والجماهيري.