أولئك الذين يُصرّون على التشبّث بروايات المؤامرات الهادفة إلى تفتيت منطقتنا العربية إلى كيانات، أجاء هؤلاء من صفوف اليسار العربي الآفل أم من صفوف اليمين العربي الغافل، إنّما يعبّرون بإصرارهم هذا عن حدود هذه الكيانات القطرية العربية، وعن تشبّثهم بحدود هذه ”المؤامرة” الاستعمارية التي طالما شنّفوا آذاننا بها في الماضي. ليسأل كلّ هؤلاء أنفسهم: أليست هذه الكيانات التي تتفتّت أمام أعيننا في هذا الأوان من صنع المستر سايكس والمسيو بيكو؟ وإذا كانت هذه هي الحال، فلماذا هذا الإصرار على رفض ”مؤامرات” التقسيم الجديدة، كما يشيعون، في خارطة هذه الكيانات الآن؟ أوليس إصرارهم هذا إصراراً على التشبُّث بالتقسيمات الاستعمارية السابقة؟ حريّ بنا أن ننظر إلى هذه الحال بعيون بصيرة بعيداً عن العواطف، وأن نتصارح مع ذواتنا التي طالما حاولنا التستّر على ما لا يسرّنا فيها. من هنا، فمواصلة دسّ الرؤوس في الرمال لن تفيدنا بشيء ولن تخرجنا من المآزق التي وجدنا أنفسنا فيها. ولهذا، لزام علينا أن نعترف بأنّ كلّ هذه التقسيمات الاستعمارية السابقة للمنطقة، والتي مرّ عليها قرن، لم تخلق طوال هذا القرن المنصرم دولاً ولا شعوباً ولا مواطنة عابرة للطوائف والإثنيات، وإنّما ولّدت كيانات مزعومة أدمنت إطلاق الشعارات العروبية الكبرى بغية إخفاء حقيقتها الطائفية والاستبدادية. وإذا نظرنا إلى حال العالم العربي في السنوات الأخيرة، يمكننا الجزم بأنّ هذا الوصف للحقيقة المرّة يسري على كلّ الكيانات ”الجمهورية” العربية والتي شنّفت آذاننا بالشعارات ”الثورية”، وإنّنا إذ نطرح هذا التصوّر فإنّما نستثني منه الحالة المصرية ذات الخصوصية المختلفة. إذ إنّ مصر، وعلى رغم التوتّر القبطي الإسلامي المُزمن فيها، تبقى ذات هويّة قوميّة مصريّة جامعة ومتجذّرة، فلا نرى وجوداً للقبليّة العربية في هذا الكيان. كما نستثني أيضاً بصورة أخرى تلك الحالة التونسية التي خرجت حتّى الآن من هذه الدوّامة نظراً لعدم وجود طوائف دينية وقبلية متناحرة، وفوق كلّ ذلك نظراً لعمق التجربة البورقيبية وتجذّر الحالة العلمانية فيها. وبخلاف الحالتين المصرية والتونسية، نرى أنّ الكيانات الجمهورية الأخرى، الكبرى منها والصغرى، بدءاً بالعراق وسورية، مروراً بليبيا واليمن وانتهاء بلبنان، فإنّ ما يميّزها هو هذه التركيبة الطائفية والقبلية المتجذّرة. فكلّ هذه الكيانات المصطنعة لم تفلح في خلق شعب، بما يعنيه هذا المصطلح في علم الاجتماع، في أيّ منها. فقط الدكتاتورية الاستبدادية هي التي أبقت على هذه الكيانات الصُّوَرية، ليس إلاّ. وهكذا، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على الانقلابات العسكرية التي رفعت شعارات عروبية مراهقة تدغدغ عواطف الأجيال العربية الناشئة، نرى أنّ هذه الطغم العسكرية أوصلت العرب في جميع هذه الكيانات إلى هذه الحال من التشرذم الذي أضحى من الصعب، إن لم يكن من المحال، لملمة شظاياه. ليس من السهل مواجهة حقائقنا. إنّ الشعارات البلاغية المقفّاة، مثل ”الأمّة الواحدة ذات الرسالة الخالدة”، التي تنهل من موروث القريض العربي القديم قد دغدغت العواطف طوال عقود عدة. لقد شكّلت كلّ هذه الشعارات كواتم عقول أطبقتها الأنظمة على رؤوس البشر بغية تجذير سيطرتها على كلّ مرافق البلاد. ولتعزيز إحكام السيطرة على كلّ موارد البلاد وسائر العباد أضافت إلى كلّ هذه الشعارات الرنّانة شعاراً آخر طالما قدّم لها خدمات جليلة، وهو شعار ”فلسطين قضيّة العرب الأولى”. لقد شكّلت فلسطين وقضيّتها سلاحاً في أيدي الدكتاتوريات العربية تُسلّطه على الرقاب بدعوى أن ”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. وهكذا، وطوال عقود طويلة قامت كلّ هذه الطغم العسكرية الحاكمة بإحكام قبضتها على البشر والحجر والشجر، فلم تُبق شيئاً للمواطن العربي ولم تذر. لقد كان البعث العراقي، على رغم الشعارات العروبية الكبرى، قبليّاً وطائفيّاً بامتياز، وكذا الحال مع البعث الشامي الذي حوّل سورية مزرعةً قبلية وطائفية تُحكم بقوانين مافيوزية ليس إلاّ. ما من شكّ في أنّ الاستبداد الطائفي الذي كان السمة المميّزة لهذه الأنظمة زرع بذور الفرقة في هذه المجتمعات. فإذا كانت كلّ الشعارات العروبية كاذبة، ولم تكن هنالك نوايا معقودة على خلق دولة المواطنين، بل كانت النيّة تتّجه نحو الاستحواذ القبلي والطائفي على البلاد، فالاستبداد هو الوسيلة للوصول إلى هذه الغاية. والحقيقة أنّ هذا ما جرى على أرض الواقع في هذه البقعة من الأرض. غير أنّ الاستبداد لا يمكن أن يكون مخلّداً إلى ما لا نهاية. وهكذا وصلنا إلى هذه الطريق المسدودة الآن، وما من بارقة أمل تلوح في الأفق. إنّ الحالة السورية لا تبشّر بأيّ خير في المستقبل المنظور. لقد انتهى هذا الكيان ولن يعود إلى ما كان عليه قبل انتفاضة الشعب السوري ضدّ الاستبداد البعثي القبلي والطائفي. كلّ من يعتقد أنّه تمكن لملمة شظايا هذا الكيان يعيش في الأوهام. إذ كيف يمكن، بعد مئات آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى وملايين اللاجئين والمهاجرين، أن يعود إلى ما كان عليه. إنّ الجرائم التي ارتكبت بحقّ البشر والشجر والحجر طوال الأعوام الأخيرة من قبل النّظام المافيوزي، ثمّ من قبل الدواعش ومن هم على شاكلتهم، قد جذّرت هذا الانقسام الطائفي والقبلي وزرعت بذور الرغبة في الانتقام والثأر إلى عقود طويلة قادمة. لذلك، ذهب الكيان السوري إلى غير رجعة مثلما ذهب الكيان العراقي من قبل. فاللاجئون لن يعودوا إلى ديارهم لأنّه لم تبق هنالك ديار يعودون إليها، والمهاجرون لن يعودوا إلى بلد لم يعد موجوداً كما عرفوه. وإذا كان لا بدّ من وضع حدود جديدة لكيانات جديدة في هذه البقاع، فأكثر الشعوب حقّاً في طلبها بناء كيان مستقلّ لها هم الأكراد. لقد آن الأوان أن يدعم العالم بأسره قيام دولة كردية مستقلة في بلاد كردستان التي كان الفرس والأتراك والعرب قد التهموها على مرّ التاريخ. وخلاصة القول، كلّ عربيّ، وفلسطيني بالذات، ينشد الحرية لفلسطين وللفلسطينيين لا يمكن أن تكون دعواه هذه صادقة وذات شحنة أخلاقية إلّا إذا ترافقت بدعوى الحرية والاستقلال لكردستان والأكراد في بلادهم. أليس كذلك؟