جاء الإسلام والعرب من أقل الناس شأناً، وأسوئهم جواراً، وأكثرهم تفرقاً، تحركهم المثارات، وتجمعهم العصبية حتى قال قائلهم: وما أنا إلا من غزيّة إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد! إذا تذكرنا تاريخهم وأيامهم ذكرت حرب البسوس، وداحس والغبراء، والفجار، وغيرها من الحروب الطاحنة التي كانت تنشب لأتفه الأسباب، وشعارهم كما قال عمرو بن هند: ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينا! يصور لنا حال العرب قبل الإسلام بأصدق وصف وأوجز عبارة الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حينما سأله ملك الحبشة النجاشي يرحمه الله عن سبب هجرتهم فقال: "يا أيها الملك، كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف•••"• قوم هذا حالهم، لم يكن بمقدور أموال الدنيا كلها، ولا قوى البشرية جميعها؛ عوضاً عن دعاوى القومية المتهافتة أو الأفكار البالية، أن تجمع شتاتهم، أو توحد كلمتهم، ليكونوا أمة واحدة فضلاً عن أن تؤلف بين قلوبهم، أو تصلح ذات بينهم•• كما قال تعالى مقرراً هذه الحقيقة: "لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم" (الأنفال: 63)• وفجأة وفي معجزة أدهشت الأعداء قبل الأصدقاء يشع نور الإسلام في جزيرة العرب، وما هي إلا سنوات معدودة حتى يبسط سلطانه على قلوب العرب، فتتحول تلك القلوب من العداوة إلى المحبة، ومن الفرقة إلى الأُلفة، وتتبدل أخلاقهم من سوء الجوار إلى كرم الضيافة، ومن قطيعة الأرحام إلى صلاح ذات البين، ومن الحسد والبغضاء إلى سلامة الصدر• بل وتتجاوز هذه المعجزة الإلهية العرب لتربط قلب صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، بقلوب أشراف العرب وسادتهم بأعظم وأوثق عرى، ألا وهو رباط الأخوة الإسلامية الخالد في ملحمة ربانيّة شاهدة على عظمة هذا الدين على مرّ العصور• يروي لنا القرآن قصة هذا التحول الكبير في حياة العرب، وهذه المنة العظيمة بعد الهداية للإسلام بقوله جلّ ذكره: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون 102 واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها" (آل عمران)• فبالإسلام وحده استطاع الرسول (ص) أن يحوّل العرب وغيرهم من الأقوام، إلى إخوة متحابين بجلال الله؛ متواصلين في ذات الله، على البر والتقوى• وبهذه القلوب انطلق النبي (ص) يبني مجتمعاً ربانياً مثالياً في المدينةالمنورة، تجاوز بصفاته "حلم المدينة الفاضلة"، في فكر أفلاطون، لأنه مجتمع قائم على أساس الإيمان بالله وحده، ثم الأخوَّة الإسلامية، "الأخوَّة في الله، تلك التي تجعل الجماعة المسلمة بنية حيّة قوية صامدة قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية، وفي التاريخ الإنساني: دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحياة على أساس المعروف وتطهيرها من لوثة المنكر" (الظلال: 1- 441)•