كم هي ممتعة كرة القدم، وكم هي مثيرة وكم هي أخاذة للألباب والعقول.. لا يجادل في ذلك أحد ولا يكابر فيه إنسان، وليس من المبالغة القول بأنه لا يوجد شيء غيرها يجمع الناس مثلها هذه الأيام.. * شيوخ وأطفال وشباب، ونساء ورجال، وفقراء وأغنياء، ومثقفون وأميون كلهم في الهم سواء تجاهها، يحبوها وينجذبون إليها وكثير منهم يوقف أعماله من أجلها وبعضهم يحب ويبغض من أجلها ويخاصم ويوالي بحسبها وتضطرب أحواله وتتقطع أنفاسه أثناء متابعتها. لا شك أن في هذه اللعبة فرجة وتسلية ومتعة أصلها مباح، وما أجمل هذه المتعة حينما ترتبط بمظاهر ذات قيم مثل رفع مناصري الفريق الوطني الجزائري لرايات فلسطين في مدرجات ملعب المريخ بالسودان وتلك اللقطة الخالدة التي قام بها بوتريكة المصري في إحدى مباراته للفت نظر العالم إلى العدوان الصهيوني على غزة بعد أن سجل هدفا رائعا، ورفع الأيادي للسماء بالدعاء والتضرع قبل المقابلة من قبل اللاعبين والمشجعين من البلدين الشقيقين، والسجود الجماعي للاعبين المصريين بعد فوزهم في مصر على أشقائهم الجزائريين، وإرجاع الفوز إلى الله سبحانه بعد حصوله كما فعل سعدان وروراوة وصايفي وكما فعل عنتر يحيى وهو يمسك بقوة على المصحف الشريف لدى عودته مع زملائه للوطن بعد التأهل لتصفيات كأس العالم وإهدائهم هذا التأهل لفلسطين عبر وسائل الإعلام، وإظهار الرضا بقضاء الله وقدره عند كثير من مشجعي الفريق المصري بعد خسارتهم... ألا يدل كل هذا على مخزون إيماني كبير في نفوس الشعوب العربية والإسلامية وتعلق أكيد بقضاياهم وعلى رأسها قضية فلسطين. كما أن التنافس الذي أظهرته الجماهير في إظهار النزعة الوطنية في مختلف الربوع الجزائرية والمصرية بمناسبة هذه المقابلة المثيرة برفع الأعلام وترديد الأناشيد والأغاني الوطنية يُدخل السرور على القلب ويزرع البهجة والحماسة في النفس ويٌطمئن على تمسك الناس بأوطانهم وخصوصا الشباب منهم، على الرغم من الحرمان والتهميش الذي يعانونه، أليس هذا كذلك أمارة على مدى استعداد هؤلاء الشباب للبذل والعطاء لو توفرت لهم القيادة الراشدة التي تشحذ هممهم على هذا النحو في مختلف دروب النمو والتطور. * * شوفينية تحرق الأخضر واليابس * * ما أروع هذه المقابلة وما أبدعها لو اقتصرت على هذه الصورة الجميلة الممتعة، فما الذي عكر الأجواء؟ وما الذي حدث لكي تتحول مقابلة في كرة القدم إلى ملحمة تاريخية أزَّمت العلاقات بين دولتين شقيقتين ونشرت العداوة بين شعبين تجمعهم أخوة الدين وأواصر العروبة ووشائج التاريخ وروابط المصير المشترك؟ من أذن بقرع طبول المواجهة في الفضائيات المصرية منذ المقابلة الأولى بين الفريقين على أرض الجزائر؟ ما سر الاعتداء على حافلة اللاعبين الجزائريين في مصر؟ ألم يكن كافيا أن تتحمل السلطات المصرية مسؤوليتها وتعلن على الأقل بأنها ستجري تحقيقا في الموضوع لتهدئة الأوضاع بدل استفزاز ضيوفها بأنهم هم من فعلوا ذلك بأنفسهم رغم شهادات الصحافيين الأجانب بصحة وخطورة الواقعة؟ ثم كيف تحولت الوطنية في البلدين إلى شوفينية تقضي بإلحاق كل المفاخر للذات الوطنية وإلصاق كل أنواع النقائص للوطن الآخر؟ ما ذنب المصريين المقيمين في الجزائر وما ذنب الجزائريين المقيمين في مصر لكي يخافوا ويُرعَّبوا؟ هل حوّلت كرة القدم مفهوم صراع "الڤلادياتورس" في الحلبات والمسارح الرومانية قديما حيث كان "الڤلادياتورس" يقتل بعضهم بعضا تحت تصفيقات جمهور متعطش للدم والجريمة فأصبحنا نرى اليوم لاعبين يلعبون بكل روح رياضية في الملعب والمناصرون من حولهم وبعيدا عنهم يتقاتلون من أجلهم؟ ما حقيقة ما جرى في السودان بعد المقابلة الفاصلة وما دليل ما يُنقل ويُقال؟ وما الذي يفسر تلك الهستيرية التي أصابت الإعلام المصري بشتم كل الجزائريين دون استثناء والطعن في تاريخهم وأصولهم وانتمائهم بشكل يجعل أعقل العقلاء من الجزائريين يُستفز ويتعكر ميزاجه، وإن قدر على كظم غيظه لا يكاد يجد حيلة لتهدئة مواطن آخر بجنبه غاضب وثائر لفداحة ما قيل؟ ألم يكن مناسبا لبعض الجرائد الجزائرية كذلك أن تأخذ القدوة من الفضائيات الوطنية فلا ترد على الاستفزاز وتتألق بالرزانة والدعوة للتعقل؟ ثم الأغرب من هذا كله ما دخل أبناء الرئيس المصري والمسؤولين المصريين في هذه المعركة الكروية والشتائم الشعبوية التي يقترفها البسطاء من الناس في أي مواجهة رياضية في أي مكان في العالم؟ ألم يكن الأفضل أن تٌحرك القنوات الدبلوماسية الهادئة والحميمية للتفاهم وتوقيف المزالق بدل استدعاء السفراء والتهديد بقطع العلاقات وتوقيف الاستثمارات؟ هل الأمر يتطلب حقا كل هذا العناء؟ ثم ما أسوأ أن يضحك علينا الكيان الصهيوني بعد كل هذا فيدعوننا للتعقل وضبط النفس! * * آثار قد تدوم طويلا * * إن العداوة والبغضاء بين مصر والجزائر شأن عربي وإسلامي خطير يستفيد منه كل أعداء الأمة وعلى رأسهم كيان إسرائيل، فمصر هي مصر وما أدراك ما مصر، والجزائر هي الجزائر وما أدراك ما الجزائر بما يملكان من تاريخ مشرف ومقدرات بشرية ومادية وعسكرية وجيوستراتيجية وخبرات وعلاقات دولية وعراقة حضارية وثقافية ثبتت في أسوأ الأحوال وأصعب الظروف، وشعبين مؤمنين متمسكين بأصالتهما رغم اختلاف الخصائص الفطرية القابلة للتكامل، والفضل بينهما متبادل مهما كفرتها شحنات الشوفينية والحبائك التآمرية. فلندع شأن الساسة والرؤساء والحكام وتجار الفتنة والصدام ولنُقر بأن هذه هي الحقائق التي يَشرفُ بها الشعبان والتي لا ينكرها إلا جاحد أو مدعي أو متآمر، إن التعاون والتقارب بين مصر والجزائر فيه الخير كل الخير للشعبين وللأمة العربية والإسلامية إن غلب العقل وحكم الرشد وساس الصدق وساد النبل. * لا يمكن بعد كل هذا أن نفسر ما حدث تفسيرا بسيطا ونطوي الصفحة وننسى ما كان ولا نأبه بما سيكون من آثار سلبية قد تستمر سنوات طويلة بين الشعبين إن لم نفهم ما جرى ونستوعب عمق المأساة العربية فتنتفض النفوس الأبية في البلدين لتوقف تيار العداوة والشقاوة فورا، ثم تلتفت لإصلاح الأسباب الحقيقية لهذه المهازل التي سرقت منا حق التمتع بمقابلة عادية في كرة القدم في إطار المحبة والبهجة والسرور وأدخلتنا في أتون حرب داحس أخرى وغبراء. * إن الخلفيات والدلالات التي تفسر هذا الوضع كثيرة ومتنوعة ومتداخلة يساعد تفكيكها على إدراك وجوب التحرك السريع والجاد والدائم لترميم ليس العلاقات الجزائرية المصرية فحسب بل لإصلاح وضع أمةٍ بكاملها، إن صلُحت وتصالحت أدركت مجدها المسلوب وأنعمت أهلها المنهوب ولفرح شعبها عندئذ بمتع الرياضة وغيرها بلا أهوال ولا خطوب. * لا أريد أن أتوقف في محاولة فهم هذه الخلفيات والدلالات عند مظاهر العنف التي تقع في المدرجات وحول الملاعب، والمشادّات التي تحدث بين الصحفيين والمشجعين قبل وبعد المواجهات الكروية، فهذه الأشياء تقع بين فرق محلية مصرية وجزائرية وأوربية وأمريكية ويحدث فيها من التدمير بل أحيانا القتل ما لم يقع بحمد الله في المواجهة بين مصر والجزائر. * إن هذه المواجهة ما كان لها أن تخرج عن نطاقها العادي لو لا تداخل عوامل سياسية ونفسية نذكرها في ما يلي: * العامل السياسي * * لا أستطيع أن أستبعد أن النظام الجزائري استغل هذه المقابلة لتهدئة الجبهة الاجتماعية المتأزمة في المجمل ولكسب تعاطف جماهيري واسع بتسهيل نقل المشجعين للسودان واستقبال تاريخي للاعبين عند عودتهم فائزين (دون أن أنكر البعد الوطني المصاحب الموجود بالفطرة في قلب كل مواطن حاكم أو محكوم مصريا كان أم جزائريا)، غير أن إدارة السلطات الجزائرية لهذا التوظيف تميزت بذكاء كبير ورزانة وتحفظ تفوقت فيها على السلطات المصرية علاوة على أن لا أحد من الملاحظين السياسيين في الجزائر يؤمن بأن هذه الفرصة الرياضية تمثل تحديا سياسيا كبيرا للنظام الجزائري إذ لا تضغط عليه استحقاقات سياسية قريبة و هو يملك وفرة مالية كافية لشراء السلم الاجتماعي إلى حين، خلافا للنظام المصري أو جزء منه الذي تورط بشكل مباشر برموزه ووزرائه ودبلوماسيته وإعلامه ونخبه على نحو سافر وعنيف دل لدى كثير من الملاحظين السياسيين في مصر نفسها على أن استغلال هذه الفرصة الكروية مثلت له مناسبة كبيرة لخدمة نفسه وتخفيف ضغط شديد يعانيه بتجميل صورة مشروع التوريث ولإطالة زمن الإلهاء الجماهيري بواسطة التشويق والتصعيد وقرع طبول الحروب الوهمية وخلق الأعداء الجدد باستعمال وسائل الإعلام الثقيلة التابعة له، الخاصة منها والعمومية، في ظل حالات التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الكبيرة التي تتفشى أكثر فأكثر في الشارع المصري وتحت الضغط المتصاعد من قوى المعارضة الرافضة كلها لمشروع تمليك الجمهورية المصرية للأسرة المباركية. ولو قٌدر لهذا للنظام المصري أن افتك الفوز من المنتخب الجزائري لانفتحت أمامه فترة طويلة مليئة بالتهريج الكروي من كأس افريقيا في يناير 2010 إلى كأس العالم في يونيو 2010 وقد تكون هذه الفترة وما يصاحبها من صخب مُلهي كافية لتمرير مشاريع لا يراد للشعب المصري أن يهتم بها، مما يدل على فقدان التوازن والتركيز الذي أصابه بعد انقلاب الآية وتَغُير الظروف ورجوع الجمهور المصري محبطا أمام الهزيمة ربما غير المتوقعة وأمام مفاجأة كثافة الجمهور الجزائري التي أظهرت للمشجعين المصريين أن السلطات الجزائرية كانت أكثر جدية في دعم فريقها. * إن التخبط في هذه الحسابات السياسية الصغيرة على مستوى الحكام والانخراط الشامل واللامعقول من قبل شرائح المجتمع المختلفة في هذا التوتر والتهريج في البلدين يدل على اضطراب المنظومة القيادية في الأمة وغياب المشروع السياسي وانحصار الرؤية الحضارية المستقبلية. لو توفر في هذه الأزمة طبقة قيادية مناسبة لقدرت على وضع الأمور في نصابها، ولأمسكت بزمام العواطف، ولأفلحت في توجيه الجماهير نحو الأهم والأفضل والأنفع، ولسدت الطريق على المغامرين والمتاجرين قبل استفحال العداوة، ولبادرت على الفور لإصلاح ما اضطرب، بهدوء وروية، بدل الانسياق وراء إرضاء الجماهير وكأن الجماهير المهيَّجة هي التي تقود وهي التي تضع المعايير. ولو كان في مجتمعاتنا مشروع سياسي يحرك الناس في مختلف دروب التنمية والتعلم والتحضر والتقدم، ويُشغًّل الطاقات الكامنة في ما يَبني ويُؤسس ويُعلي ويُشيِّد لما وجد هؤلاء الناس الوقت لهذا التهويل الطويل العريض، ولأبت نفوسهم استهلاك كل تلك الطاقة حول مباراة في كرة القدم. ولو كانت منظومات بلداننا تنطوي على رؤى حضارية مستقبلية لكانت النفوس أهدأ ولكانت أشواق الناس وآمالهم وطموحاتهم وتطلعاتهم أعلى مستوى مما رأينا في هذا المعترك، ولأدركت عقولهم الميزان، ولنطقت ألسنهم بالصواب ولو ضد النفس والعشيرة. ولنا في الفرنسيين والإرلنديين أسوة إذ خسر الإرلنديون التأهل لكأس العالم بهدف خاطئ من اللاعب الفرنسي تييري هنري فاكتفوا بالاحتجاج السلمي الهادئ ولم يقيموا الدنيا ويقعدوها وتركوا الفرنسيين تقرع ضمائرَهم أصواتُ النخب الفرنسية المختلفة نفسها حيث لم تتقبل التأهل بطريقة مغشوشة. ذلك هو حال المجتمعات المستقرة المنشغلة بما ينفعها والتي يقودها من يعرف مصالحها ويضمن مستقبلها. * * العامل النفسي * * أدى الاستغلال السياسي للمباراة ورفع سقف التحدي للآخر وشحن الجماهير بكل أنواع الشحن المعنوي الذي أٌدخل فيه التاريخ والانتماء والعلاقات القديمة إلى تحويل المقابلة إلى قضية شرف في كلي البلدين تحت مسمع ومرأى العالم بأسره، فقفزت النرجسية والعصبية والشوفينية على قلوب وعقول الجميع ولم يصبح أحد من المصريين أو الجزائريين يتحمل الخسارة مهما كان الأمر فاستعيرت وسائل حشد متطورة تقارب أساليب التعبئة العسكرية ووضع الناس جميعا على محك الوفاء للوطنية ضمن قالب واحد لا يسمح لأحد أن يقول فيه قولا مخالفا ولو كانت حكمة بالغة. ولكن الذي كان خافيا على الطرفين أن كثيرا من الحالات النفسية التي ظهرت في الخطاب المستعمل لإظهار العظمة والأفضلية على الغير تٌعبر عن حالات مرضية تتميز بها الأنظمة الفاشلة التي تغطي عجزها على إسعاد شعوبها كل يوم بما تحققه لهم من تنمية وكرامة وحرية وعزة ومنعة بانتصارات كروية وهمية تُغلف بغلاف الوطنية والاستعلاء الحضاري والتاريخي فتسقط الشعوب التي توالت عليها الهزائم في التعلق بأي نصر موهوم و لو كان كرة جلدية. * إن لمصر من المآثر والمفاخر ما يجعلها تفخر ولا شك، ولكن من يضيف للمجد مجدا هو من يحق له أن يَشرُف بالمجد، ومن يسمو بالتواضع هو الأهل لكل مجد. ولكن للأسف الشديد عقدة الشعور بالعظمة في الجانب المصري أعمى الأبصار في تقييم الذات والحكم العادل على الآخرين، لم تترك هذه الحالة النفسية المسيطرة مجالا لكثير من النخب المصرية ليعرفوا أين هي مصر الآن بعد الأمس، ولم ينتبهوا أن لا أحد في العالم العربي صار يتحمل هذه الحالة الاستعلائية، وأن كثيرا في الشعوب العربية أضحى لا يطيق مطالب المصريين بالصدارة على العرب. إن الأرهط النافذة اليوم في مصر هي من ضيعت مجد مصر وتاريخها وموقعها، فهي التي قادت الجيوش العربية لهزيمة 1967 وهي نفسها التي باعت انتصار العرب في 1973 قي كمب ديفيد، وهي من تحاصر غزة وهي من تتآمر على المقاومة في لبنان وفلسطين. إن هذا الجيل من الحكام هو الذي، رغم مقدرات بلاده الكبرى، لا يزال يطأطئ رأسه كل سنة ليأخذ المساعدات الأمريكية المكبلة لإرادته، وفي نفس الوقت يجرجر الأشراف للسجون والمعتقلات في أرض الكنانة، أين هذا الجيل من تلك الأجيال الغابرة التي صنعت الحضارة والأمجاد المصرية، كيف يحق لأرهط اليوم أن يستصحبوا في إعلامهم ذكر الأمجاد... وهل نفعهم ذلك في تجييش العرب وراءهم في هذه المعركة الوهمية... إنه لم ينفعهم في شيء.. بل زادت العرب عنهم بعدا... حتى صار كثير من العرب في المشرق والمغرب يشجع الفريق الجزائري ليس مع الجزائر ربما ولكن ضد مصر بكل تأكيد..... هكذا قالها كثير من العرب بكل صراحة. * * لعب بالنار * * إن الخطأ الفادح الذي وقع فيه المصريون المشتركون في هذه الواقعة البائسة أنهم تورطوا في تحريك عقدة نفسية جزائرية بالغة الخطورة جعلت هؤلاء الجزائريين يذهبون للسودان في حالة استنفار قصوى وكأنهم جوارح مجروحة يممت شطر أرض بها حرب قائمة، والحمد لله أن دفع الله بالقليل الذي حدث ما كان أعظم. * إن الشعب الجزائري شعب أبيٌّ يعطيك بالحسنى ما لا يعطيه غيرُه، ويُنجدك في العسرة ولو على حساب نفسه، فإذا ما أشعرته بالإهانة ونكران فضله، شطّ في الفعل بخصمه، ولو في ذلك كذلك حتفه. إن هذه الحالة النفسية الجزائرية قديمة غائرة في القدم صنعتها أحداث التاريخ المتتالية فهو ذلك الشعب الذي أنبته الله في أرض ذات خيرات عامرة وموقع محسود من كل القوى الطامعة، فاضطر للدفاع على نفسه ضد الوندال والرومان والفراعنه، فقاومهم جميعا ولم يرض لغريب أن يستقر في أرضه حتى لاحت أعلام الإسلام الهادية، فقبلها بنفس راضية، وسار معها بعيدا لفتح الأندلس وبناء دول وحضارة زاهية. ولما هددت الفرنجة سواحله استعان بإخوة له في الدين من الدولة العثمانية، وسيطر معهم على البحر المتوسط لسنوات طويلة متتالية، حتى دالت الدالة ودارت الدائرة وتمكن الفرنسيون من الجزائر فحاولوا إلحاقها بأوربا وسلخها عن دينها ولغتها وحضارتها فاصطدموا بمقاومة تلو المقاومة، أبلى فيها الشعب الجزائري البلاء العظيم وقدم التضحيات الجسام حتى حفظ لغته وهويته وبها استرجع سيادته ضمن ثورة تحريرية كبرى قدم فيها مليونا ونص مليون من الشهداء دفعت به لمصاف الشعوب العظيمة بكل استحقاق وصارت الجزائر قبلة الثوار وقدوة المقاومين ورمز النجدة والإباء وصار لهذا المسار أعمق الأثر في نفس كل جزائري إذ لا يقبل الظلم ولا المهانة ولا الاحتقار ولو كان من أقرب الأقربين وصارت له ثقافة ومصطلحات خاصة به في هذا المجال ومنها كلمة "الحڤرة" وكلمة "النيف" وكلمة "الرجلة" وغيرها من العبارات التي لا تجدها إلا في القاموس الجزائري. * ولكن إلى متى يستمر الاستجداء بهذه الحالة النفسية للتّقوي على الفعل، وهل لا يُطلب الفعل إلا في حالة الشعور بالظلم، وهل يكفي التغني بخصال المقاومة وأمجاد الثورة لتحقيق الوحدة والالتحام أبدا، وإلى متى سيظل هذا العقار نافعا في تسكين الأوجاع المزمنة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ألم يصبح عدد كبير من الشباب لا يقبل هذا، وهل غاية تضحيات الأجيال السابقة طوال الثورات المتتالية أن يتغنى بها الناس ويفتخروا بها فحسب، ألم تكن تمثل مشروعا حضاريا كبيرا، ألم ينص بيان أول نوفمبر على أن الهدف من الثورة هو بناء دولة ديموقراطية شعبية اجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية ثم لتحقيق الوحدة المغاربية فالعربية، أين نحن من ذلك كله، هل يعقل لدولة كالجزائر لها هذا الزخم المعنوي العظيم وحباها الله بخيرات طبيعية هائلة أن تفشل في قيادة شعبها قيادة راشدة لتحقيق التنمية الشاملة والرفاه الاجتماعي في ظل الكرامة والحرية وأن تبق تعيش على ريع المحروقات إلى حد تجاوز الخامسة والتسعين في المائة بما يهدد الأجيال المستقبلية وربما الأجيال الحالية إذا ما حدثت اهتزازات اقتصادية كبرى لا يصبح البترول والغاز يساويان فيها شيء. ألا يصح لنا أمام هذا الوضع أن نسكت قليلا وأن لا نتعال على غيرنا بدماء شهدائنا، وأن نترك أرواح الشهداء تستريح ونشتغل نحن بإقامة مجد نصنعه بأنفسها... فإن أفلحنا سيفرح الشهداء بنا إذ هم يسمعوننا.. فهم أحياء عند ربهم يرزقون...