ركن نيكولاس مادورو، فنزويلا المنهكة اقتصاديا واجتماعيا والمعزولة سياسيا في منتصف الطريق، تاركا إياها محل تناطح قطارين سريعين، احدهما قادم من الشرق تقوده روسيا، والأخر آت من الغرب تتناوب على قيادته كل من واشنطن والاتحاد الأوربي !. قبل رحيل هوغو تشافيز، أوصى الشعب الفنزويليي، بانتخاب صديقه نيكولاس مادورو رئيسا للبلاد، بعدما عينه نائبا له خلال سنوات مرضه، وهو ما حدث فعلا سنة 2013، وهي صفقة متبادلة يراها المتتبعون للشأن البوليفاري، بأنها مِنة حفظها لصديق النضال في تسعينيات القرن الماضي، حيث قاد مادورو مظاهرات في سبيل إخراجه من السجن، ومنذ تلك الحادثة النضالية، صان هوغو ذلك الموقف الإنساني، وحين أكتشف أنه سيغادر إلى الأبد، وضع ثقته في صديقه القديم لقيادة الدولة الفنزويلية . وبالرغم من حفاظ سائق الحافلة الذي تدرج في العمل النضالي وأصبح صوته مسموعا وقويا في أرجاء البلاد، على نفس نبرة الخطاب الشعبوي للزعيم الراحل، من أجل التأثير في الجماهير، إلا أنه لم يكن يدرك أنه قد أستلم بلدا متعبا وملغما بالأزمات، وغارقا في معادلات الفساد العالية والفقر المدقع، والأكيد أن الخطابات الحماسية لا تكفي لإخراجه من هذا الكم الهائل من الوحل ! وبالموازاة مع اندلاع الأزمة طفا إلى السطح ضغط خارجي على فنزويلا وصراع عالميّ، أعاد إلى أذهاننا الحرب الباردة بين أمريكاوواشنطن، والتي تجددت اليوم على أنقاض صراع داخلي في بلد على حافة المنحدر !.. الأزمة البولفارية شكلت فرصة عظيمة لروسيا الاتحادية، من أجل نقل ضغطها إلى واشنطن، خاصة بعدما ضاقت ذرعا بالتحركات الامريكية على تخوم المجال الحيوي للدب الروسي (العراق، ليبيا، سوريا، أوكرانيا..) أي ان موسكو أصبحت تناور على بعد عدة أميال فقط من ولاية فلوريداالامريكية !. تجددت هذه الحرب بعد سبات فُرض على موسكو لعدة سنوات، إلا أن الدب الروسي تعافى من جراحه الماضية، ليصبح أكثر قوة وحذرا، واتضحت هذه العودة الجديدة لموسكو كفاعل أساسي إلى الساحة الدولية، مع وصل فلاديمير بوتين، إلى سدة الحكم، حيث بعث حينها برسالة واضحة للغربمفادها ( إن سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1989 كان كارثة عظمى )، وكان هذا الخطاب بمثابة إعلان عودة لروسيا، كرقم صعب يحسب له ألف حساب في القرار العالمي، وقد أسقط هذا التحرك نظرية نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، من برجها العاجي، واضعا إياها في سلة المهملات، بعد سنوات من رواجها خلال الفراغ الايديولوجي الذي تركه المعسكر الشرقي عقب الإنهيار . تتجه موسكو اليوم إلى كتابة صفحات جديدة من التاريخ خارج الخيارات المثالية التي كانت تغرق فيها قبل قرابة 30 سنة من الآن، ونحو أفق أكثر برغماتية وعقلانية من ذي قبل لتحقيق أهدافها على حساب البلدان التي تقبع في الخلف، على غرار فنزويلا التي لازالت متمسكة بخيارتها الاشتراكية في الوقت الذي تجاوز حتى الوريث الشرعي هذه الايديولوجيا المُحَطمة ! . الوضعُ البائس حاليا في كاركاس، يقابله وضعين مريحين لكل من واشنطنوموسكو، هذين البلدين اللذين تصالحا مع نفسيهما وعالجا مشاكلهما الكبرى في أنظمتهما السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإتجاها نحو العالم من أجل التأثير فيه بما يخدم مصالح استقرارهما الداخلي، والأكيد أن الضحية ستكون بلدان تتخبط في أزمات خانقة، والمتشبعة بخطابات الزيف والشعبوية ومعدلات الفساد ذات الأرقام المكوكية ! ومادامت هذه هي الوضعية الدولة البوليفارية، والعديد من البلدان التي تسيير على شكلتها نحو الانهيار، لامناص أن تكون محطة أطماع دول عظمى، تتصارع حول نظام الحكم الذي يصلح لها من أجل مصالحها، وليس لفائدة الشعب الفنزويلي، مثلما تدعيه الخطابات المعلن عنها من قبل موسكووواشنطن ! وهنا أستحضر حادثة تاريخية، عن الصراع الأمريكي، السوفيايتي في كوبا، خلال ستينيات القرن الماضي، حيث أبقي الارجنتيني تشي غيفارا، متمسكا بمبادئه الشيوعية في سقفها العالي، واعتقد دائما أن الاتحاد السوفياتي سيقود هافانا نحو الخلاص بعد نجاح الثورة الكوبية. لذلك بعد تعينه وزيرا للصناعة في كوبا، راهن تشي على الزراعة من أجل الوصول الى المبتغى المنشود ، والأكيد أن تحقيق كهذا فكرة تحتاج إلى مدد من أجل تجسيد المشروع وما كان منه إلا أن إتصل بالبلد الداعم من أجل الحصول عليه، وقد تلقى حينها الموافقة المبدئية من الحكومة السوفياتية آنذاك. طار الطبيب الثائر والمتحمس، على جناح السرعة نحو أرض الدببة، وهو يحلم بإرجاع كوبا إلى دولة زراعية عظيمة، ويخفف عنها وطأة الحصار الأمريكي، ولما وصل إلى موسكو، لم يكن يعلم ان تواجده، سيتزامن وزيارة مسؤول أمريكي اليها، وهذا الأمر لن يمنعه طبعا من لقاء أحد المسؤولين في الاتحاد السوفياتي، الذي وعده بتوفير عدد قليل من الآليات الزراعية فقط وليس الرقم المتفق عليه، مقدما بذلك اعتذاره واعتذار بلاده، لفيدال كاسترو عن عدم القدرة على توفير الطلبية، ليغادر تشي وهو يجر أذيال الخيبة، حينها التفت المسؤول السوفياتي وفي أوج اشتعال الحرب الباردة بين الدولتين، ليخاطب صديقه الأمريكي:(هذا الأبله يعتقد أنه سيحول بلاده إلى دولة عظمى)!! وبالتالي لا خيار أمام الفنزوليين، سوى الركون الى حل وحيد، وهو أن تتحالف المولاة والمعارضة من أجل إنقاذ البلاد، وإفتكاكها من مخالب القوى العظمى، وكذلك من التسيير الأحادي المتعنت الذي سيجرها حتما نحو الانهيار.. فلا أحد ينكر أن سائق الحافلة، استطاع في الماضي قيادة 40 شخصا، دون أخطاء يذكرها التاريخ، لكنه أخفق فعلا في المضي قدما ب 30 مليون مواطن فنزويلي إلى بر الأمان، لذلك يتجه بهم بسرعة القصوى نحو الهاوية!!