* إسمه ومولده هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري رحمه الله تعالى، يُكنى بأبي جعفر، وعُرف بذلك، وإتّفق المؤرخون على أنه لم يكن له ولد يسمى بجعفر، بل إنه لم يتزوج أصلاً، ولكنه تكنَّى التزامًا بآداب الشرع الحنيف، فقد كان النبي يُطلِق الكُنَى على أصحابه. وُلِد سنة 224ه/ 839م، وكانت ولادته بآمُل عاصمة إقليم طبرستان. قال الخطيب البغدادي: (إستوطن الطبري بغداد، وأقام بها إلى حين وفاته). * طفولة الإمام الطبري وتربيته نشأ الطبري بآمل، وتربى في أحضان والده وغمره برعايته، وتفرس فيه النباهة والذكاء والرغبة في العلم فتولى العناية به ووجَّهه منذ الطفولة إلى حفظ القرآن الكريم، كما هي عادة المسلمين في مناهج التربية الإسلامية، وخاصةً أن والده رأى رؤيا تفاءل بها خيرًا عند تأويلها. فقد رأى أبوه رؤيا في منامه أن ابنه واقف بين يدي الرسول ومعه مخلاة مملوءة بالأحجار، وهو يرمي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصَّ الأب على مُعَبِّرٍ رؤياه فقال له: (إن إبنك إن كبر نصح في دينه، وذبَّ عن شريعة ربه). ويظهر أن الوالد أخبر ولده بهذه الرؤيا وقصها عليه عدة مرات؛ فكانت حافزًا له على طلب العلم والجد والإجتهاد فيه والإستزادة من معينه، والإنكباب على تحصيله ثم العمل به، والتأليف فيه، ليدافع عن الحق والدين. وظهرت على الطبري في طفولته سمات النبوغ الفكري، وبدت عليه مخايل التفتح الحاد والذكاء الخارق والعقل المتقد، والملكات الممتازة، وأدرك والده ذلك فعمل على تنميتها وحرص على الإفادة والإستفادة منها؛ فوجَّهه إلى العلماء ومعاهد الدراسة، وساعده على استغلال كل هذه الطاقات دون أن يشغله بشيء من شئون الحياة ومطالبها، وخصص له المال للإنفاق على العلم والتعلم، وسرعان ما حقق الطبري أحلام والده، وزاد له في آماله وطموحه. وقد حرص والده على إعانته على طلب العلم منذ صباه، ودفعه إلى تحصيله، فما كاد الصبي الصغير يبلغ السن التي تؤهله للتعليم، حتى قدمه والده إلى علماء آمل، وشاهدته دروب المدينة ذاهبًا آيبًا يتأبط دواته وقرطاسه. وسرعان ما تفتح عقله، وبدت عليه مخايل النبوغ والإجتهاد، حتى قال عن نفسه: (حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة). * ملامح من شخصيته وأخلاقه تمتع الإمام الطبري رحمه الله بمواهب فطرية متميزة، جبله الله عليها، وتفضل عليه بها، كما حفلت حياته بمجموعة من الصفات الحميدة، والأخلاق الفاضلة، والسيرة المشرفة؛ ومن هذه الصفات: 1- نبوغ الطبري وذكاؤه: إن كثيرًا من صفات الإنسان تكون هبة من الله تعالى، وعطاءً مباركًا من الخالق البارئ، ولا دخل للإنسان فيها، والله يختص برحمته من يشاء، ويفضل بعض الناس على بعض، ويرزق المواهب الخاصة لمن يشاء من عباده. وكان الطبري -رحمه الله- موهوب الغرائز، وقد حباه الله بذكاء خارق، وعقل متقد، وذهن حاد، وحافظة نادرة، وهذا ما لاحظه فيه والده، فحرص على توجيهه إلى طلب العلم وهو صبي صغير، وخصص له موارد أرضه لينفقها على دراسته وسفره وتفرغه للعلم. ومما يدل على هذا الذكاء أنه رحمه الله حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، وصلى بالناس وهو ابن ثماني سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين. 2- حفظ الطبري: كان الطبري رحمه الله يتمتع بحافظة نادرة، ويجمع عدة علوم، ويحفظ موضوعاتها وأدلتها وشواهدها، وإن كُتُبه التي وصلتنا لأكبر دليل على ذلك، حتى قال عنه أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المفلس: (والله إني لأظن أبا جعفر الطبري قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره). 3- ورع الطبري وزهده: وهاتان الصفتان من فضائل الأخلاق، ومن أشد الصفات التي يجب أن يتحلى بها العالم والداعية، والمربِّي والإمام، وكان الطبري رحمه الله على جانبٍ كبير من الورع والزهد والحذر من الحرام، والبُعد عن مواطن الشُّبَه، واجتناب محارم الله تعالى، والخوف منه، والاقتصار في المعيشة على ما يَرِدُهُ من ريع أرضه وبستانه الذي خلَّفه له والده. قال عنه ابن كثير: (وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان من كبار الصالحين). وكان الطبري رحمه الله زاهدًا في الدنيا، غير مكترث بمتاعها ومفاتنها، وكان يكتفي بقليل القليل أثناء طلبه للعلم، وبما يقوم به أوده، ويمتنع عن قبول عطايا الملوك والحكام والأمراء. 4- عفة الطبري وإباؤه: وكان الطبري رحمه الله عفيف اللسان، يحفظه عن كل إيذاء، لأن فعل اللسان قد يتجاوز في بعض الأحيان السنان، ولأن جرح السيف قد يُشفى ويبرأ، ولكن هيهات أن يُشفى جرح اللسان. وكان الطبري متوقفًا عن الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم ولا يؤثرها إلى أن مات، ولما كان يناظر مرة داود بن علي الظاهري في مسألة، فوقف الكلام على داود، فشق ذلك على أصحابه، فقام رجل منهم، وتكلم بكلمة مَضَّة وموجعة لأبي جعفر، فأعرض عنه، ولم يرد عليه، وترفَّع عن جوابه، وقام من المجلس، وصنَّف كتابًا في هذه المسألة والمناظرة. وكان الطبري عفيف النفس أكثر من ذلك، فهو مع زهده لا يسأل أحدًا، مهما ضاقت به النوائب، ويعفُّ عن أموال الناس، ويترفع عن العطايا. 5- تواضع الطبري وعفوه: كان الطبري شديد التواضع لأصحابه وزواره وطلابه، دون أن يتكبر بمكانته، أو يتعالى بعلمه، أو يتعاظم على غيره، فكان يُدعى إلى الدعوة فيمضي إليها، ويُسأل في الوليمة فيجيب إليها. وكان رحمه الله لا يحمل الحقد والضغينة لأحد، وله نفس راضية، يتجاوز عمن أخطأ في حقه، ويعفو عمن أساء إليه. وكان محمد بن داود الظاهري قد اتهم الطبري بالأباطيل، وشنَّع عليه، وأخذ بالرد عليه؛ لأن الطبري ناظر والده، وفنَّد حججه، وردَّ آراءه، فلما التقى الطبري مع محمد بن داود تجاوز عن كل ذلك، وأثنى على علم أبيه، حتى وقف الولد عن تجاوز الحد، وإشاعة التهم على الطبري. ومع كل هذا التواضع، وسماحة النفس، والعفو والصفح، كان الطبري لا يسكت على باطل، ولا يمالئ في حق، ولا يساوم في عقيدة أو مبدأ؛ فكان يقول الحق، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ثابت الجنان، شجاع القلب، جريئًا في إعلان الصواب مهما لحق به من أذى الجهال، ومضايقة الحساد، وتخرصات الحاقدين. * شيوخ الإمام الطبري من أشهر شيوخ الطبري: محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وأحمد بن منيع البغوي، ومحمد بن حميد الرازي، وأبو همام الوليد بن شجاع، وأبو كريب محمد بن العلاء، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، وأبو سعيد الأشج، وعمرو بن علي، ومحمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، وخلق كثير نحوهم من أهل العراق والشام ومصر. * تلاميذته من أشهر تلامذته: أحمد بن كامل القاضي، ومحمد بن عبد الله الشافعي، ومخلد بن جعفر، وأحمد بن عبد الله بن الحسين الجُبْني الكبائي، وأحمد بن موسى بن العباس التميمي، وعبد الله بن أحمد الفرغاني، وعبد الواحد بن عمر بن محمد أبو طاهر البغدادي البزاز، ومحمد بن أحمد بن عمر أبو بكر الضرير الرملي، ومحمد بن محمد بن فيروز، وخلق كثير غيرهم. * مؤلفات الإمام الطبري ترك لنا الطبري ثروة علمية تدل على غزارة علمه، وسعة ثقافته، ودقته في اختيار العلوم الشرعية والأحكام المتعلقة بها، وكان له قلم سيَّال، ونَفَس طويل، وصبر في البحث والدرس، فكان يعتكف على التصنيف، وكتابة الموسوعات العلمية في صنوف العلوم، مع ما منَّ الله عليه من ذكاء خارق، وعقل راجح متفتح، وجَلَد على تحمل المشاق. * منهجه في التفسير لقد لخص لنا الأستاذ الفاضل محمد محمود الحلبي -في كلمة الناشر للطبعة الثالثة- منهجَ الطبري بإختصار فقال: (وهو تفسير ذو منهج خاص، يذكر الآية أو الآيات من القرآن، ثم يعقبها بذكر أشهر الأقوال التي أُثرت عن الصحابة والتابعين من سلف الأمة في تفسيرها، ثم يورد بعد ذلك روايات أخرى متفاوتة الدرجة في الثقة والقوة في الآية كلها أو في بعض أجزائها بناءً على خلافٍ في القراءة أو اختلاف في التأويل، ثم يعقِّب على كل ذلك بالترجيح بين الروايات وإختيار أولاها بالتقدمة، وأحقها بالإيثار، ثم ينتقل إلى آية أخرى فينهج نفس النهج: عارضًا ثم ناقدًا ثم مرجِّحًا). (وهو إذ ينقد أو يرجِّح يردُّ النقد أو الترجيح إلى مقاييس تاريخية من حال رجال السند في القوة والضعف، أو إلى مقاييس علمية وفنية: من الاحتكام إلى اللغة التي نزل بها الكتاب، نصوصها وأقوال شعرائها، ومن نقد القراءة وتوثيقها أو تضعيفها، ومن رجوع إلى ما تقرر بين العلماء من أصول العقائد، أو أصول الأحكام أو غيرهما من ضروب المعارف التي أحاط بها ابن جرير، وجمع فيها مادة لم تجتمع لكثير من غيره من كبار علماء عصره). * آراء العلماء في الإمام الطبري قال عنه ياقوت الحموي: (أبو جعفر الطبري المحدِّث، الفقيه، المقرئ، المؤرِّخ، المعروف، المشهور). وقال الخطيب البغدادي: (كان أحد أئمة العلماء، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات كلها، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها: صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم...، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم). وقال القفطي: (العالم الكامل، الفقيه، المقرئ، النحوي، اللغوي، الحافظ، الإخباري، جامع العلوم، لم يُرَ في فنونه مثله، وصنف التصانيف الكبار). وقال عنه محمد بن إسحاق بن خزيمة: (ما أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير). وقال ابن كثير: (كان أحد أئمة الإسلام علمًا وعملاً بكتاب الله وسُنَّة رسوله). وقال الإمام الذهبي: (الإمام الجليل، المفسر أبو جعفر، صاحب التصانيف الباهرة... من كبار أئمة الإسلام المعتمدين). وقال عنه الذهبي أيضًا: (كان ثقة حافظًا صادقًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والإختلاف، عَلاَّمةً في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات واللغة، وغير ذلك). وقال عنه ابن تغري بردي: (وهو أحد أئمة العلم، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه، وكان متفننًا في علوم كثيرة، وكان واحد عصره). آراء العلماء في مؤلفاته إحتل تفسير الطبري سويداء القلب عند العلماء على مرّ العصور في القديم والحديث، وحظي بالرعاية والعناية، وأثنى عليه الأئمة والعلماء والمؤرخون والمفسرون، وسطروا الجمل المذهبة حوله، وعلقوا عليه أوسمة الفخار. قال عنه الإمام النووي: (لم يصنف أحد مثله). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وتفسير محمد بن جرير الطبري هو من أجلِّ التفاسير وأعظمها قدرًا...). وقال أيضًا: (وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي). وقال مؤرِّخ الإسلام الذهبي: (وله كتاب التفسير، لم يصنف أحد مثله). وقال عنه القفطي: (وصنف التصانيف الكبار، منها تفسير القرآن الذي لم يُرَ أكبر منه، ولا أكثر فوائد). وقال السيوطي في الإتقان: (وكتابه أجلُّ التفاسير وأعظمها... فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والاستنباط، فهو يفوقها بذلك). وقال الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: (فكان جديرًا بالتفسير حين تناوله الطبري بتلك المشاركة الواسعة، وذلك التفنُّن العجيب أن يبلغ به أوجه، وأن يستقر على الصورة الكاملة التي تجلت فيها منهجيته، وبرزت بها خصائصه مسيطرة على كل ما ظهر من بعده من تآليف لا تحصى في التفسير). وقال أبو حامد الإسفراييني الفقيه: (لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصِّل تفسير ابن جرير، لم يكن كثيرًا). * وفاة الإمام الطبري عاش الطبري راهبًا في محراب العلم والعمل حتى جاءته الوفاة ولا رادَّ لأمر الله. قال الخطيب: (واجتمع عليه حال الجنازة من لا يحصيهم عددًا إلا الله، وصُلِّي على قبره عدة شهور ليلاً ونهارًا، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب). وكان ذلك في يوم 26 من شهر شوال سنة 310ه/ 923م على الأرجح، في عصر الخليفة العباسي المقتدر بالله، ودُفِن في داره الكائنة برحبة يعقوب ببغداد.