لا ينبغي أن يمر فوز المغني والشاعر الغنائي الأمريكي، بوب ديلان، بجائزة نوبل في الآداب دون أن نطرح تساؤلًا جادًا حول ما رأته الأكاديمية السويدية، لكي تمنحه أرفع جائزة أدبية في العالم. أعتقد أن من المناسب أن ننحّي جانباً كلّ التأويلات التي ترجع الفوز لانحيازه لإسرائيل، أو لصهيونيته العلنية أو الخفية، فنحن نعلم عداء جوزيه ساراماغو المعلن لدولة إسرائيل وإدانته المستمرة لها ولمشروعها الاستيطاني، كما نعلم أنه فاز ب نوبل عام 98 دون أن تعاقبه الأكاديمية على موقفه الإنساني والأيديولوجي. كما يجب أن نتواضع قليلًا في الحديث عن محكمة نوبل ونكف عن وصفها بأنها لا تفهم في الأدب أو أنها أصيبت بخلل ما. لننظر للمسألة من وجهة نظر أخرى. وجهة نظر تقول إن الأكاديمية السويدية ليست جاهلة بالأدب، وإنها إذ تختار بوب ديلان لهذا العام، أو اسفيتلانا، للعام الماضي، فهو اختيار ناتج من رؤية لمفهوم الأدب، وليست عملية عشوائية. سواء اختلفنا أو اتفقنا مع هذه الرؤية. وبغض النظر عن تقبلها أو التحفظ عليها، علينا أن نعترف بأن جائزة نوبل تشكّل، على نحو كبير، خريطة الأدب في العالم كله، وأنها أصابت في مرات كثيرة باختيار أسماء صارت بالنسبة لنا مألوفة كأنها تكتب بلغتنا. بوب ديلان شاعر غنّى كلماته، وأحدث بأغانيه ثورة في الموسيقى الشعبية الأميركية، ومنه جاءت البيتلز وكوهين وفان موريسون وجوني ميتشيل، وتطورت الموسيقى الأميركية عبر كلماته وأغانيه. في حيثيات الفوز، قالت الأكاديمية السويدية إنه استطاع إبداع تعابير شعرية ساهمت في الإضافة لتقاليد الأغنية الأميركية. هي إذن لم تمنحها له لأنه مطرب، بل، بالأساس، لأنه شاعر غنائي، وإن كان من الممكن أن تمنحها له فقط لطربه وإضافاته وتأثيراته في الموسيقى الأميركية. لم يكن الشعر الغنائي، طبعًا، من أسباب الفوز بنوبل من قبل، إذ اقتصرت الجائزة على الفنون السردية والشعر والمسرح، حتى كسرت نوبل القاعدة العام الماضي بمنحها لكتابة صحفية مطعّمة بالأدب. لفهم لماذا اختارت نوبل بوب ديلان وإسفيتلانا، يجب العودة إلى ما كتبه كجيل إسبمارك في كتابه جائزة نوبل للآداب.. مائة عام من المهمة ، إذ أشار إلى أن الأدب ليس فقط الأعمال الأدبية الصافية، بل أيضًا الكتابات الأخرى التي تحتوي على قيمة أدبية. إسبمارك، الذي كان رئيسًا للجنة نوبل منذ عام 1988 وحتى 2005 يمنحنا بهذه العبارة مفتاحًا لفهم العقلية التي منحت نوبل لديلان، ويكشف لنا الرؤية. لا تعتقد محكمة نوبل ، إذن، بأن الأنواع الأدبية المكرسة على طول التاريخ الإنساني هي وحدها الأدب بألف ولام التعريف، بل ترى أن الكتابة الصحفية قد تحوي أيضًا قيمة أدبية، والشعر الغنائي، بالطبع، يحوي هذه القيمة. بحسب ذلك، قد يفوز بنوبل في الأعوام المقبلة كاتب سيناريو سينمائي أو تلفزيوني، أو كاتب جرافيك نوفيل أو كوميكس، أو رسام كاريكاتير. وربما يتعدى الأمر الكتابة ليكون الأدب في الإخراج، أو الغناء، أو الرقص، او التصوير الفوتوغرافي، أو الفيديو آرت والأفلام القصيرة. لقد فتحت نوبل بذلك نافذة جديدة، من حقك أن تتفق أو تختلف مع رؤيتها، لكنها رؤية جديدة وجريئة ومتطورة وتشمل بتكريمها الفنون الأخرى، دون أن يكون الأمر مقتصرًا على الأنواع المتفق عليها. مفهوم الأدب، بحسب نوبل ، صار الأدب على قارعة الطريق، والأدب ليس أنواعًا معينة ومحدودة تقدمه، بل صار أكثر انفتاحًا على رؤى فنية استجابت لتطورات الحياة، وطرحت، كما يطرح الأدب، تصورًا عن العالم لا ينبغي أن نقصيه أو نتعالى عليه، إذ صار مفردة من مفردات حياتنا. وبوب ديلان قدّم شعرًا غنائيًا وموسيقى تستحق نوبل، أكثر مما يستحقها هاروكي موراكامي، على سبيل المثال.