"سمكة البياض" ثماري الأولى من شجرة الكتابة وأغاني اللوحات م رابحي شاعر وأستاذ جامعي، صاحب حضور خفيف كظل لكن مؤثر وآسر. يراوح بين الصرامة والنزق دون أن يفقد وجاهته واتزانه. يتحدث إليك بالفصحى حتى وهو في قلب السوق برنة وطلاوة تفقد العربية كل تكلف.. يعيش الشعر في كل ما حوله. لكن يحلل كل شيء عبر معارفه وتنظيراته النقدية. كان لنا لقاء مع الشاعر والدكتور محمد عادل مغناجي تحدثنا فيه حول ديوانه الأول "سمكة البياض". وعن علاقته بالنقد الذي قال إنه "النار التي يطبخ عليها جسد الإبداع" وكذا عن أسفاره وكيف تجعله يتجدد ويعبر به من ذاته إلى ذاته. كيف تلخص تجربتك الشعرية في ديوانك الأول "سمكة البياض" بالنظر إلى المتن الشعري الراهن في الجزائر؟ تجربتي الشعرية تنضج كتفاحة في غصن شجرة، والتجربة هي تجارب متداخلة فيما بينها ولكن بخصوص سمكة البياض فهي مجيميعة منتقاة من تجارب روحية حقيقية عشتها مع الحياة والأصدقاء والفن وأخي الفنان التشكيلي أحمد يسين مغناجي. وحتّى مع نفسي، فهي صور متعددة لمشاعري التي سربت في داخلي وكانت أغلبها مناقشة لعلاقة الفن بالإنسان وتناجيا من الفنان في داخلي لعالمه الخاص، لكن هذه المجموعة هي باكورة، فهي الثمار الأولى التي جنيتها من شجرة الكتابة الشعرية وأغاني اللوحات. هي الفصل الأخير من المجموعة الذي ارتكزت عليه المجموعة. يعالج حديث الفنان أحمد يسن مغناجي للوحته وعالم القماشة البيضاء وما سيزرع فيها من آمال وأحلام وردية وشجور ونخل وحدائق جارية بماء الحياة وسماء متسعة لكل الألوان.. وكانت هذه المجموعة جاءت بعد أن شجعني كثير من أصدقائي المثقفين الكبار الذين لهم باع طويل وعريض في النقد العربي والأدب الجزائري منهم الأستاذ الدكتور البروفسور الناقد رابح طبجون، والبروفيسور الناقد محمد كعوان، وصديقي الناقد الفيلسوف أحمد دلباني والصديق الشاعر والروائي المتميز شوقي ريغي والشاعر والناقد عراس فيلالي، فلهم مني كل التبجيل والتوقير الصادق الغمير الوافي. أمّا فيما يخص المتن الشعري الجزائري الراهن، فلا شكّ أن سمكة البياض هي كائن حي في بحر هذا الراهن الذي أفضل أن لا أقيّمه آنيا وغنما أصفه بأنه فيه اغتلاء بين تجارب شعرية من أجيال مختلفة وأنا بسمكتي أحدثت تجعيدا طفيفا في جلد مائه الجاري، ولا أحسب أنها سيصد عنها إن هي إلا عملة ستلقى صيارفة ونقادا لها وأنا أرحب بالنقد فهو كما يقول عباس محمود العقاد صابون القلوب. يبدو مشروع الكتاب (سمكة البياض) غريبا؟ فهل هو يعكس رساما محتملا بداخلك فشل في التواصل مع الألوان فلجأ إلى الشعر أم أنك تعطي أخاك صوتك ليقول الشعر ليكمل مشروعه الفني؟ هل هي مشكلة "فنية" بينك وبين أخيك أم ماذا؟. أعتقد أن فن الرسم مكتنز في داخلي وهو حالة شعرية تنتابني ولم أفشل فيه لأنني مارسته وقرأت عنه وحواراتي مع أخي جلها في سياقه وحتى مع أصدقائي لكن فنية أخي أكبر بكثير وهذا ما استرعى انتباهي إلى رجل مملوء بجواهر لونية وحلي من أشكال مختلفة كأنه قصر مغمور باليواقيت والفن بيننا هي اللغة الراقية التي أخاطبني بها من خلال أخي ويخاطبه بها من خلالي. والسمكة رمز جمالي بيننا وأخلاقي وكأن هذه الكلمة كلمة مرور إلى قلب الأخر ولذلك قمت بمشروع ولم أنهه بعد وهو ترجمة أعمال أخي الفنان يسين أحمد إلى نصوص مختصرة أو كيفما جاءت بصدق وعفوية وباستبصار بما عندي من عمق في الفن وتجربة وميل لكل المعاني التي أراها قيما كبرى في أعمال أخي. أنت أكاديمي، من الطبيعي ومن المفروض أن ترى الإبداع مجموعة عناصر وسياق من المعادلات.. ألا ترى أن هذا يجني على مشروعك الشعري؟ أم أنك تعي الإشكال جيدا، ولديك طريقتك للإفادة من مخزونك النقدي التنظيري؟ أما عن النقد والأكاديميا فليس في ذلك ضير، أنني أكون متشبعا بالعلم والوعي والنقد، بل أرى أن هذه المعارف هي النار التي يطبخ عليه جسد الإبداع وروحه، وليس بي استقباح في هذه المسألة. وجميل أن أزاوج بين "بصيرة الإبداع" والإبداع في حد ذاته. بل أذهب أكثر من ذلك فأقول إن الإبداع وإن كان جميلا وهو بريء من الفكرة المسبقة أو بمعنى أخر مكتنز بتوجيه الايديولوجيا له إلا أنه ينبغي أن يوجه ويرشد إلى أبعاد الاكتشاف. فالشعر اكتشاف أيضا لعالم الذات والوجود والعواطف والحقائق وهو مختلف عن وصفها فقط، ولاحظ صديقي العزيز أن أغلب الشعراء الكبار هو رؤى نقدية كبيرة، كمحمود درويش رحمه الله ونازك الملائكة والبياتي ونزار،،، وغيرهم من المبدعين الكبار وهو نقاد كبار لكن هناك من تحصل على هذه المعرفة بالدراسة النظامية وهناك من تتلمذ على يد الحياة وتبقى المغامرة والانقذاف في سياق الاكتشاف الشعري اللحظي هي الحقيقة البريئة التي لا نخدشها أبدا فهي الصرخة الأولى ونحن صغار في هذا العالم الذي تسجه حدائق الحروف وتزغرد على غصنه العواطف كأنها أيك وحمائم عاشقة تبلل السماء بدموعها. نتحدث في الجزائر عن مراحل شعرية جديدة وأسماء متميزة. هل في إمكان الشعر أن يحافظ على قدرته على التطور في ظل ركود قرائي ونقدي بل انصراف المشهد الثقافي إلى الاحتفاء المطلق والمغلق بالرواية؟ رغم أنني أخشى يوما يطرح علي سؤال في الصحافة لماذا اقتفيت أثر الرواية وابتعدت عن طريق الشعر إلا أنني أقول إن للشعر مشروعا ممايزا عن الرواية وهما يسيران جنبا إلى جنب وكم يعجبني تعريف الراحل عبد الرحمن الأبنودي لما سئل عن الشعر إذ قال "هو وظيفة بيولوجية وفكرية وطبيعية كأنها استنشاق هواء جميل أو شرب ماء عذب أو أكل فاكهة أو القيام بأية عملية تدفع بالإنسان إلى الحياة. فالشعر مرتبط بالإنسان موشوج بالحياة، والرواية شكل أدبي لكنه مختلف في طريقة عرضه فقط. وهما زهرتان أينما يوجد الإنسان توجدان ولو خفتت قراءة أحدهما لأمور لا تتعلق بهما وبلغتهما ورسالتهما بل بتطلبات تفرضها الحياة على الإنسان. المقربون من مغناجي يعرفون عنه إخلاصه لشيئين الأصدقاء والأسفار. ما معناهما عندك؟ وهل بالإمكان أن يكون لهما معنى مشتركا: أن يسهم الصديق في تجسيد أسفارك؟ أو أن يقدم لك السفر صديقا جديدا؟. أحب أصدقائي كثيرا وأحب السفر كثيرا. وكلاهما يصنع الآخر وهذا سؤال وجيه. الصديق هو في مفهومي وتصوري أبلغ كلمة في جملة الحياة لأنه يغير الحياة تغييرا كاملا ولذلك لما اصدم في صديق أجرح داخليا. وليس الصديق هو شخص فقط وإنما قد يكون سورة قرآنية مثلا كسورة يوسف أو أغنية جميلة لها ذكرى أو مقطع موسيقي أو أي شيء يصدق في جعلي أتفاعل بصدق ورقي. أما السفر فيجعلني أتجدد وأعبر ذاتي إلى ذاتي كأنني عصفور يعبر النص وهذى الجملة. هما (الأصدقاء والأسفار) جزءان من حياتك الشخصية.. كيف تربطهما بحياتك الأدبية، أو كيف تجسدهما إبداعيا على الورق؟ ليس الأصدقاء والسفر كما قلت بل أكثر فهما قسيماي ونديماي، وأربطهما بحياتي الأدبية بوشائج لا تنفصم، وعرى لا تنقطع أسبابها، بل هما مصدرا كتاباتي سلبا وإيجابا، فالسفر كم منحني الكثير من الرؤى لاكتشاف العالم الداخلي في ذاتي وفي الكون المنظور والمسطور، والسفر كوّن شخصيتي العاطفية وغمرها بمادة الاشتهاء للكتابة. كم كتبت عن شوارع العبدلي في الأردن ياسمين الشام وحمامه المبتل بالحنين والمودة وقبة المسجد الأموي وكم كتبت عن جلال الإمارات وعمارات دبي وبهاء صحراء الخليج الذهبية اللامعة وزرقة بحرها، لكن الكتابة الكبيرة والمؤثرة كانت في المغرب الأقصى بالضبط في كازابلانكا والرباط وفاس ومراكش والجديدة والرباط أطدال، ولي قصة مع الرباط والدار البيضاء. عصرت مخيلتي الشعرية رحيقا وزهورا وفلا وجعلت الحياة تبدو بفستانها المزركش الجميل كم بكيت دمعا عاشقا على رواية الخبز الحافي لمحمد شكري وأنا أطل من شرفة الحزن الإنساني ومن على نوافذ روحي الملونة باليقين أن هذه الحياة أجمل من في الحياة رغم مآسي الإنسان. أطللت من شرفة فندق تورينغ، وكتبت أياما وليالي وسنين ودهورا وما أفتأ أذكر من كتبت من أجله، لهذه الطبيعة الخلابة التي خلبت نفسي، وذهبت ببصيرتي إلى سماوات أخر، واختبأت كحمامة أندلسية في قصرها الأخضر البهي، بل وهدأت في ريش روحها الدافئ، كتبت في رحلتي الأولى إلى المغرب وأنا في الطائرة الملكية قصيدة رائحة المغرب وتبدأ فنجان قهوتي يضحك، والعودة من الرباط، ونشرتهما في صحيفة صاحبة الجلالة الدولية إذ أسسنا بهما وبغيرهما من القصائد الصحيفة في دولة دبيبالإمارات العربية المتحدة، ثم الرحلة الثانية كانت في نوفمبر 2015 إذ حملت معها أكثر من ثلاثة كتب، ورواية أوشك أن أكملها. فالكتابة في السفر والسفر في الكتابة صنوان خدّان صنو الفضاء وصنو الحجر كما قال صديقنا أحمد علي سعيد أدونيس، والآن أنذر هذا الديوان وهذا الكتاب إلى من يسكن بهذه الأبيات: في القلب يحترق المشاعر قربها فكأن حبها نارها ولهيبها والروح تصبح كالرماد إذا جفا عنها وشط على البعاد حبيبها فكأنها ناران نار دنوها والبعد في الأعماق يسري دبيبها في قلبها وطني وخارج حبها وطني ضياعي في الحياة غريبها فكتبت عن الإنسان في المغرب وعن سلابالرباط، إذ قلت: سلا من العين تدنو بل من الكبِد كأنها موطني أو إرقي أو ولدي سلا لأنفاسها جسر يقرّبني من النعيم ويفضي بي إلى الأبد سلا لحاراتها ورد تبسم لي أنّى مشيت وحطّ الأيك فوق يدي أنات أهليها أوتار وقد عزفت يد الجراح فهذا اللحن من كبَد وكتبت عن الأصدقاء والأحبة وهم شريعة لتنبع الشعر الملون كالماء وسط البستان الممرع، وهم نبعة مظللة بالبهاء، وأنا مدين لأحبائي الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم بكل خير. هل ننتظر (على غرار سمكة البياض) أن نقرأ لك كتابا تحيل فيه الكلمة للحبيبة؟ ننتظر-بإذن الله وتوفيقه العزيز- ديوانا آخر قد يكون ديوان"مقام الآلهة" يومئ إلى مفهوم الحبيبة والحبيبة معا، وإنه لمجدرة ومنبهة أن يكون الديوان حاملا لمعان حميمة، مرمته الإحاطة بخرائط الأديب العاطفية والاجتماعية والمفاهيمية، وليس مجرد نصوص يكتبها ويمليها كأن شيئا لم يكن، وأن لا يترك القارئ في عذره وطمته، يخب في دياجير الظلام المعنوي، ولا يجد بصيص النور إلى معناه اللؤلؤي والغرض المنشود لكن أن يحمل المعنى الواحد احتمالات عديدة تتفرع منها معان أخرى، وهذا من ثراء اللغة واتساع الأسلوب، فالحبيبة هدف من الأهداف وما قام هذا الأدب إلاّ على النظرة العميقة لمعرفة أسرار هذه الحبيبة عند الشاعر، ومناطات ما خفي من عاطفتها وسلوكها، وهذا في رأيي على الأقل؛ إذ إن النصوص التي أكتبها إن هي إلا معالجة لاحتراق عاطفي مرّ به الإنسان أو ميل وجداني غريب غشاه وأرهقه من أمره عسرا، فللحبيبة ديواني الآتي الأخضر الذي تطلع من أفنانه شجرة الحب الكبيرة، ولها كل نجوم الغزل الخجولة تساقط عليها حنانا جميلا ورأفة بهية كأنها زهور معصورة من سماء الصفاء الأبدية التي تملكنا في داخلنا ولا نملكها. فلها ديواني"مقام الآلهة" وروحي أيضا، وفي ذلك أقول الله يعلم ما في القلب من ألم وما أسر من الأخلاق والقيم يصفو الفؤاد إلى حب ويتركه بقرقف من لظى للوجد مزدحم وما انطوى كشحه إلا على ثقة من النقاء وقصد غير منفصم فالله يعلم ما أخفيت من ولد إلى الحبيب وإني غير منتقم أحببته ودموع الورد تشهد لي وأيكة الصفو والعصفور بالأكم وفاطر الأرض والأكوان والبهم وجاعل الطيب في الهبات والنسم وخالقي من تراب دون معرفتي صيّري من ندى الإنسان والأدم قلبي وروحي شهود إنني عشق قصيدتي وسط يم العاشق الشبم فإن أمت كتبت بالنور أوردتي شهيد حب وهذا الحبر منه دمي وإن بقيت لربي قد مددت يدي ومن يرد بباب الراحم الرحم؟ حاشاه طهر أنفاسي فما عرفت غدرا وخانت قرار الفارس الشهم إلى العربية وإلى حرفيها الجميلين"حم" مصافاة ومواددة مرة أخرى.