منتصبَ القامة مشى ورحل وترجل عن حياة طويلة، بعد 75 عاما، بعد معاناة مع سرطان الكبد، الذي أنهكه واستلذ نهشه، ومع هذا كتب فيه: «اشرب فنجان القهوة يا مرض السرطان كي أقرأ بختك بالفنجان». سميح القاسم الذي أقام في القصيدة وفي الكلمات وفي ملكوت الشعر، غرد كثيرا لفلسطين وأرض فلسطين وعصافيرها وزيتونها وتلها وزعترها وأكثر. شهد غياب صديقه توفيق زياد ورثاه، وشهد غياب صديقه الأقرب محمود درويش ورثاه أيضا كما يليق بالكبار بقصيدة «خذني معك»، وها هو اليوم يغيب ويلتحق بهما في سماء لها قدرة فائضة على احتضان أجمل للأصدقاء وزملاء النكبة والكتابة. القاسم الذي رحل يوم الثلاثاء 19 أوت 2014، ولد في 11 ماي عام 1939، عمل مدرّساً في المدارس الابتدائية العربية، لكن وزير المعارف الإسرائيلي آنذاك أمر بطرده على خلفية مواقفه المناهضة لإسرائيل، وسرعان ما ترك هذه المهنة ليعمل في الصحافة محرراً في عدة مطبوعات، ولم يلبث أن ساهم في تأسيس عدة صحف ومجلات أشهرها صحيفة «كل العرب»، وبعد سنوات من الإشتغال في الصحافة، تفرغ للكتابة والشعر على وجه الخصوص. يعتبر القاسم أحد أبرز أعمدة القصيدة المقاومة، ومثلما ظل وفيا للقضية، ظل يبدع فيها شعرا ونثرا ومسرحا، وقد أنجز أكثر من خمسين كتاباً، وأغلب عناوين إصداراته، كانت مجموعات شعرية، منها: «مواكب الشمس»،»أغاني الدروب»، «دمي على كتفي»، «دخان البراكين»، «سقوط الأقنعة»، «ويكون أن يأتي طائر الرعد»، «رحلة السراديب الموحشة»، «طلب انتساب للحزب»، «قرآن الموت والياسمين»، «الموت الكبير»، «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم»، «أحبك كما يشتهي الموت»، «الجانب المعتم من التفاحة، الجانب المضيء من القلب»، «جهات الروح»، «الكتب السبعة». بالإضافة إلى عدد كبير من «السربيات»، وهي شكل شعريابتكره القاسم، يعتمد على المطولات.وعدد آخر من الأعمال المسرحية والحكايات والكتب النثرية والبحثية. سميح القاسم، الذي عاش وفي كفه قصفة زيتونٍ، وعلى كتفه نعشه، احتفى في شعره بالحياة والأرض وبالموت أيضا، وقد أنشد في إحدى قصائده: «أنا لا أحبك يا موت/لكني لا أخافك/ وأعلم أني تضيق عليّ ضفافك/ وأعلم أن سريرك جسميوروحي لحافك/ أنا لا أحبك يا موت/لكني لا أخافك». «كراس الثقافة»في عدد اليوم، يحتفي بفارس من فرسان شعر المقاومة، رفقة كتاب وشعراء، بعضهم من أصدقاء الراحل وبعضهم زملاء حرف وكتابة. منتصبَ القامة مشى ورحل وترجل عن حياة طويلة، بعد 75 عاما، بعد معاناة مع سرطان الكبد، الذي أنهكه واستلذ نهشه، ومع هذا كتب فيه: «اشرب فنجان القهوة يا مرض السرطان كي أقرأ بختك بالفنجان». سميح القاسم الذي أقام في القصيدة وفي الكلمات وفي ملكوت الشعر، غرد كثيرا لفلسطين وأرض فلسطين وعصافيرها وزيتونها وتلها وزعترها وأكثر. شهد غياب صديقه توفيق زياد ورثاه، وشهد غياب صديقه الأقرب محمود درويش ورثاه أيضا كما يليق بالكبار بقصيدة «خذني معك»، وها هو اليوم يغيب ويلتحق بهما في سماء لها قدرة فائضة على احتضان أجمل للأصدقاء وزملاء النكبة والكتابة. القاسم الذي رحل يوم الثلاثاء 19 أوت 2014، ولد في 11 ماي عام 1939، عمل مدرّساً في المدارس الابتدائية العربية، لكن وزير المعارف الإسرائيلي آنذاك أمر بطرده على خلفية مواقفه المناهضة لإسرائيل، وسرعان ما ترك هذه المهنة ليعمل في الصحافة محرراً في عدة مطبوعات، ولم يلبث أن ساهم في تأسيس عدة صحف ومجلات أشهرها صحيفة «كل العرب»، وبعد سنوات من الإشتغال في الصحافة، تفرغ للكتابة والشعر على وجه الخصوص. يعتبر القاسم أحد أبرز أعمدة القصيدة المقاومة، ومثلما ظل وفيا للقضية، ظل يبدع فيها شعرا ونثرا ومسرحا، وقد أنجز أكثر من خمسين كتاباً، وأغلب عناوين إصداراته، كانت مجموعات شعرية، منها: «مواكب الشمس»،»أغاني الدروب»، «دمي على كتفي»، «دخان البراكين»، «سقوط الأقنعة»، «ويكون أن يأتي طائر الرعد»، «رحلة السراديب الموحشة»، «طلب انتساب للحزب»، «قرآن الموت والياسمين»، «الموت الكبير»، «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم»، «أحبك كما يشتهي الموت»، «الجانب المعتم من التفاحة، الجانب المضيء من القلب»، «جهات الروح»، «الكتب السبعة». بالإضافة إلى عدد كبير من «السربيات»، وهي شكل شعريابتكره القاسم، يعتمد على المطولات.وعدد آخر من الأعمال المسرحية والحكايات والكتب النثرية والبحثية. سميح القاسم، الذي عاش وفي كفه قصفة زيتونٍ، وعلى كتفه نعشه، احتفى في شعره بالحياة والأرض وبالموت أيضا، وقد أنشد في إحدى قصائده: «أنا لا أحبك يا موت/لكني لا أخافك/ وأعلم أني تضيق عليّ ضفافك/ وأعلم أن سريرك جسميوروحي لحافك/ أنا لا أحبك يا موت/لكني لا أخافك». «كراس الثقافة»في عدد اليوم، يحتفي بفارس من فرسان شعر المقاومة، رفقة كتاب وشعراء، بعضهم من أصدقاء الراحل وبعضهم زملاء حرف وكتابة. إستطلاع/ نوّارة لحرش موسى حوامدة/ شاعر فلسطيني كان يتكئ على القصيدة كوسيلة مقاومة ضد الاحتلال كان سميح القاسم شاعرا عفويا وقريبا من القلب، وكان يتكئ على القصيدة كوسيلة مقاومة ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، رفض الخدمة العسكرية وسُجن لهذا السبب، ورفض أولاده الأربعة ذلك من بعده،كان غزير الإنتاج، يؤمن بالشعر التفعيلي ولا يقترب من الحداثة التي كان يسميها «بلاستيك» ويضيف «مع احترامي لأدونيس». زرته في قريته «الرامة» مسقط رأسه ومكانه الأبدي حيث دفن هناك.القرية على جبل حيدر، كان متشبثا بها ولا يريد فراقها وكان له ما أراد. قال لي انظر من هنا ترى بحر عكا، ومن هنا من على جبل حيدر ترى بحيرة طبيرا وصفد، من يترك مكانا مثل هذا فيه ولدت وفيه سوف أموت،واطلعني على مكان قديم كانينام فيه مع محمود درويش حينما كانا صغيرين ومطاردين، وقال لي:»كان محمود أصغر مني وكان يحب أخي سامي»،وروى لي كيف جاءت سيارات الجيوش العربية عام 1948 ونقلت المواطنين الفلسطنيين إلى سوريا ولبنان وكيف أن أباه وأقاربه رفضوا الخروج،وكان ذلك نتيجة اتفاق مع شيوخ الطائفة الدرزية،ومع ذلك كان سميح يرفض أن يخدم أبناء الطائفة في الجيش الإسرائيلي وكان واحدا من رموز يوم الأرض حيث انطلقت المواجهات في منطقة «تل» القريبة من الرامة في الجليل. وكي لا يظل حديثنا مجرد رثاء وبكاء أقول بلا مواربة مع فقدي لصديق كبير في مقام سميح القاسم إن نتيجة حرب 1948 وتخلي العرب عن الشعب الفلسطيني وحرصهم على إبراز «صوت عربي» هناك ثم قيام الثورة الفلسطينية عام 1965 منحت الشعراء الذين كتبوا عن فلسطين هناك حرزا ومناعة من النقد وبات كل من ينتقد شاعرا كتب عن فلسطين كأنه خارج على القانون-لغاية اليوم- لم يكتب نقد حقيقي عن تجربة الشعراء الفلسطينيين وكل ما كُتب تقديس للموضوع الرئيسي وهو الحق الفلسطيني وكأن الموضوع طغى على كل شيء آخر، وبالطبع لعل الشعراء أنفسهم استغلوا الأمر وشعروا أنهم في حصانة عن النقد فكانوا يكتبون وكأنهم فوق النقد وتبين أنهم كانوا محقين، فالعقلية العربية لا تميز بين الحب والنقد/بين الموضوع وطريقة التعبير، وحتى اليوم، هناك حساسية في طرح الأمر وكأن الكتابة اليوم عن رحيل سميح القاسم لا تسمح إلا بترديد نفس العبارات التي كنا نرددها عن شعراء المقاومة وهي مفهومة في باب الحزن والرثاء ولكنها غير مفهومة في باب التحريز والتحصين، لا نقول ذلك تقليلا من حزننا على فراق سميح القاسم ولا تقليلا من أهميته الشعرية والإنسانية ولكن فرق بين البكاء والتباكي، فرق بين الحزن الحقيقي والحب الحقيقي الذي يؤمن بالنقد الموضوعي ولا يرى شاعرا أو كاتبا فوق النقد. لسميح القاسم تجربة شعرية كبيرة ومتشعبة، ومسيرة نضالية تخللتها أغلب محطات النكبة الفلسطينية مرورا بقيام إسرائيل وحرب ال67 وبقية الحروب التالية والصراع العربي الصهيوني، هذه التجربة وتجارب بقية شعراء المقاومة لم يتم تناولها إلا من باب الإطراء والإعجاب بأن هناك من يكتب بالعربية داخل ال48 وبعد ذلك برز صوت سميح القاسم كشاعر مقاومة وظلت تحربته الشعرية تراوح مكانها في بنية التفعيلة وفي نفس المباشرة ومع ذلك كرس اسمه كشاعر مقاومة فلسطينية وحافظ على بقائه داخل الكيان الصهيوني. أحمد حمدي/ شاعر وناقد جزائري لم يتحقق حلمه بزيارة الجزائر تعرفت لأول مرة على اسم سميح القاسم من خلال قصائده التي نشرتها له صحيفة المجاهد الأسبوعي سنة 1966 هو ومحمود درويش وتوفيق زياد، باعتبارهم شعراء من فلسطينالمحتلة، في هذه الفترة كنت أنا أيضاً أنشر في هذه الصحيفة بعض القصائد من الشعر الحر، لفت انتباهي قوة التعبير لدى سميح القاسم وبساطته إلى درجة تقترب من المحكي اليومي، عكس محمود درويش الذي كان يختار مفرداته بأناقة نزار قباني، وفي مطلع السبعينات انتشرت قصائدهم وصارت تنشر في كبريات المجلات العربية،كما راحت دار نشر لبنانية تنشر دواوين شعراء الأرض المحتلة، وتوزعها على نطاق واسع في الجزائر عبر الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، أصبحت قصائد القاسم تتداول بين طلبة الجامعة، ولدى الأدباء الشباب الذين وجدوا في تجربة شعراء الأرض المحتلة حججاً دامغة على قدرة القصيدة الحديثة في التعبير عن انشغالات الأمة، دون الإخلال بجماليات الموسيقى والعروض. ذلك هو لقائي الأول مع سميح القاسم.أما لقائي الثاني فكان بالقاهرة سنة 2006 أثناء إنعقاد مؤتمر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب وكان القاسم ضيف شرف، حيث ألقى قصيدا رائعا بقاعة اجتماعات جامعة الدول العربية، وفي كواليس هذا الملتقى تعرفت عليه أكثر، وأثناء حديثي معه وجدته لا يعرف كثيراً عن الأدب الجزائري ووجه اللوم مباشرة للكُتاب الجزائريين الذين لا يبذلون جهودا في التعريف بمنتجاتهم، كانت له رغبة في زيارة الجزائر، فقلت له إن الجزائر ترحب بك خاصة وأن الجزائر ستكون السنة المقبلة أي2007 «عاصمة الثقافة العربية». ومنذ ذلك الوقت صرت على اتصال به كلما أتيحت لي الظروف، وأثناء التحضير للجزائر عاصمة الثقافة العربية طرحت اسمه على الوزيرة فرحبت بذلك، وباعتباري عضوا في لجنة الحكماء التي سهرت على نجاح هذه التظاهرة الكبرى فقد بادرت من القاهرة بالاتصال هاتفيا بسميح القاسم حيث رحب بالفكرة وطرح مشكلة تتعلق بأنه حامل لجواز سفر إسرائيلي فقلت هذا غير مقبول في الجزائر، فاتفقوا على أن تأخذ جواز سفر فلسطيني من سفارة فلسطين في القاهرة، رجعت إلى الجزائر وأعلنت للصحف يومها أن سميح القاسم سيكون ضيف الجزائر عاصمة الثقافة العربية، وبما أن الاتصال بالأراضي المحتلة غير موجود هنا في الجزائر فقد انقطع اتصالي المباشر معه، وأثناء ذلك تعذر عليه استصدار جواز سفر من القاهرة، وهكذا لم يتحقق حلم سميح القاسم بزيارة الجزائر. محمد مظلوم/ شاعر عراقي سميح القاسم و»بنات آوى» اللافت في رحيل سميح القاسم آخر «شعراء الأرض المحتلة» ليس الرحيل بذاته، فالموت حق، وكل البشر إلى فناء، والآلهة وحدها من اختصَّتْ بالخلود، كما تقول ملحمة جلجامش، لكنْ ثمة خلودٌ من نوع آخر يستمرَّ ولا تطاله أيدي الفناء والدنس، ويجعل صنفاً من البشر يقتربون من ذلك الخلود الذي اختصت به الآلهة، هذا الخلود، هو ما حاولت حشود من «أبناء الربيع العربي» المعجبين بالرداءة في كل شيء، تشويهه لأنَّ شاعراً لم يُواطئهم على إعجابهم بربيعهم الدامي. ولهذا أجدني في لحظة غضب مدفوعاً ليس للدفاع عن شاعر مثل سميح القاسم، الذي لم يعد بحاجة للدفاع من أحد وقد طوى الشراع بعيداَ عن حروب الأرض، وإنما للصراخ في هذا الحشد من المحتالين في الثقافة العربية، ضدَّ محاولة تدنيس أسفار الخلود، طالما أنَّ هؤلاء «الشجعان» اكتشفوا مرة واحدة وبأخلاق الحشد، أنه كان مداحاً لدكتاتور -بالمناسبة القصيدة كانت «قصيدة رثاء» وليست مديحاً تقليدياً وقد نُشرت منذ خمسة عشر عاماً- لكن الذين قرأوا فنَّ الشعر لأرسطو، كما يقرأ الدُّود البشري طريقه إلى جثث الموتى بدأوا وليمتهم المعتادة بنهم بعد أن اعتادوا أكل الجثث في كل مكان. بالتأكيد يحقُّ للنقد مراجعة تراث سميح القاسم، وتفنيده وحتى محاكمته، ولكن ليس باختزاله بقصيدة، ولا بطريقة عرس «بنات آوى» وهذه الكمية من الكراهية التي جرى ضخها لمناسبة الرحيل والاشتفاء من ميت في وقت أصبح فيه في عالم آخر. وليس بثقافة الاحتيال التي يضاهي بها هؤلاء «نموذج الشطار والعيارين في التراث العربي، دون أن يصلوا لأهمية إنجازهم الأدبي!» فكل ما لديهم عدَّة بسيطة من الإنشاء، وموهبة لا يستهان بها من التخرُّص والتدليس، هذا النموذج من الطارئين على متن الثقافة رأيناهُ سائداً في العقود الأخيرة، لكنَّه ازدهر بشكل أوضح مع الاحتلال الأمريكي للعراق، وزاد «ازدهاره» في الخراب وسط بيئة الربيع العربي المزعوم!. هؤلاء يتكأكؤون «بعزم الضباع» وبتضامن مريب، لمهاجمة أيَّ نموذج لا يناسب قاماتهم، لأنهم ببساطة يريدون للثقافة العربية أن تتقزَّم لتلائم حجومهم. وقد أضحت معهم، بهذا الحجم حقاً!! أية مراجعة موضوعية لما يكتب في الثقافة قبل خمسين عاماً واليوم، تعطينا صورة واضحة عن التردِّي المريع، وعن الفرق بين الثقافة الجادة وثقافة الاحتيال السائدة!. أمس رأيناهم في تجربة احتلال العراق، يهاجمون أدونيس، وسعدي يوسف، وعبد الرحمن منيف، وإدوارد سعيد، وسواهم الكثير، واليوم مع الربيع المزعوم يكرِّرون الكرَّة على من بقي أحياء من هؤلاء، فأضافوا فيروز وزياد الرحباني، وسواهما الكثير الكثير، ولو تركوا لنبشوا قبور الموتى كذلك!! فقد رأينا وليمة لأكل جثث الموتى لمناسبة رحيلهم كما حدث مع أنسي الحاج، وصولاً إلى سميح القاسم. لقد أصبحت حشود هؤلاء مخيفةً لأنَّهم يكرَّون مجتمعين كالضباع، إنَّهم «أورطة» منظَّمة بشكلٍ مُريب يستدعي الدراسة والتحليل، خاصة وأنهم أصبحوا ظاهرة قمعية توازي أجهزة القمع الاستبدادية بل تتفوَّق عليها أحياناً في أساليب التنكيل النفسي والتشنيع المجاني!. ليس سميح القاسم، ولا تجربته الشعرية والحياتية موضع تقديس، ولكن بالمقابل، لا ينبغي أن يكون رحيله حفلة تدنيس جماعي، للضالين في ربيع مزعوم. سمير درويش/ شاعر مصري يحفر قصيدته على الصخر انسياب الكلام كالماء الجاري في البحر، وصوت ارتطامه المتواصل بالصخور، كل فترة زمنية تزيد أو تقل، بحيث يمكنك تنميط حركة الموج وفهم آلية تشغيل البحر نفسه، هذه الصورة الذهنية تقفز إلى رأسي كلما سمعت شعر محمود درويش أو قرأته، بالإضافة إلى جرأته في اختيار المفردات وتحدي الثوابت. ما إن تستمع إلى أول كلمة حتى تغمض عينيك وتترك نفسك -صاعدًا هابطًا بحنو- مع تقلبات اللغة، حتى تصطدم بشيء ما، فتصحو، وتعاود النعاس والإبحار. وهكذا سميح القاسم. الفارق الذي أتوقعه -فأنا لم أتعامل عن قرب مع درويش- أن سميح أكثر بساطة واختلاطًا بالناس وتسامحًا، وأكثر اشتباكًا مع الواقع، وأكثر تعقيدًا في كتابة الشعر، وأطول عمرًا. لم أتوقف طويلاً أمام الكلام السطحي عن تشابه تجربة الشاعرين، تذوقت سميح القاسم على مهل، وأعطيت نفسي لموسيقاه مجربًا إحساس الصوفي حين يعلو من على سطح الأرض كلما ثمل، لم أتوقف أمام اختلاف ما يكتبه عما أحب أن أكتب أنا، فأستطيع أن أضع التجربة في محلها وأتواصل معها كما هي، لا كما أريدها، هذا ما أفعله مع الشعراء عمومًا، حتى مع صلاح عبد الصبور الذي أعده شاعري المفضل، وأهم شعراء العربية المعاصرين بعد شوقي. تحدثت مع سميح القاسم لأول مرة تليفونيًّا عام 2006، أبلغته أن اتحاد كتاب مصر قرر منحه جائزة «نجيب محفوظ للكاتب العربي»، في دورتها الثانية «الدورة الأولى فاز بها القاص السوري حنا مينة 2005» وقيمتها عشرة آلاف دولار، فرح كثيرًا، وتوالت اتصالاتنا لترتيب قدومه إلى مصر لاستلام الجائزة في نوفمبر، وحدث بالفعل في افتتاح المؤتمر العام الثالث والعشرين للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، الذي انعقد بالقاعة الكبرى في جامعة الدول العربية، وتوالت أحاديثنا، ألقى سميح قصائده وسط حضور كبير من الشعراء والأدباء المصريين، الذين احتفوا به بشكل يليق بقيمته وقامته والبلد التي يمثلها، والقضية التي أنشد شعره من أجلها. الكوفية الحمراء التي يضعها حول رقبته لم تفارقه، لا في القاهرة ولا في غيرها، صارت لازمة من لزماته، كوسامته المفرطة وشعره الأبيض، هذا رجل يجيد فن العلاقات الاجتماعية، يعطي نفسه بالتساوي للجميع، ويكلم أكثر من شخص في الوقت نفسه، ولا تغيب ابتسامته عن وجهه، يرفع الحواجز بسرعة مذهلة ويشعرك منذ اللحظة الأولى أنك صديقه الأبدي. عندما كنت أكلمه بعد ذلك وأذكر اسمي يحتفي بي، كأنه لم ينس ملامحي لحظة، وكأن لقاءنا الوحيد كان أمس، وأحيانًا لم أكن أحتاج أن أذكر اسمي من الأصل، لأنه ينطقه مباشرة حين يرفع السماعة، وتدهش حين تجد كلامه متصلاً مع ما فات، مفتوحًا على المستقبل. سيبقى سميح القاسم في ذاكرة الشعر العربي لسنوات قادمة -كمحمود درويش، وآخرين- لأنه يحفر قصائده بسن شاكوش ويطلقها عرائس في الفضاء، لا يقول الكلام لمجرد أن يقوله، هؤلاء تظل آثار أقدامهم غائرة في الصخر، كما تظل أبياتهم تجري على ألسنة الناس، حتى لو لم يعرفوا أن سميح القاسم هو من قالها، كأبياته تلك من قصيدة «غرباء»: «وبكينا.. يوم غنّى الآخرون/ ولجأنا للسماء/ يوم أزرى بالسماء الآخرون/ ولأنّا ضعفاء/ ولأنّا غرباء/ نحن نبكي ونصلي/ يوم يلهو ويغنّي الآخرون». حمري بحري/ شاعر جزائري موت الشاعر في الشعر الحديث عن الشعر الفلسطيني هو الحديث عن المقاومة الفلسطينية ومن هذا المنظور كان الشعر الفلسطيني أحد أوجه المقاومة التي تمثلت في كوكبة من الشعراء من معين بسيسو إلى محمود درويش إلى سميح القاسم الذي انتقل إلى العالم الآخر بعد أن عانى وعيه قبل أن يعاني ظلم محيطه المليء بالعوائق والاكراهات وهو الذي فتح عينه تحت سماء انطفأت فيها شمس الحرية ومع هذا ظل يمشي مرفوع القامة يحث الجميع بالسير في اتجاه مطلع الشمس ومات وهو يمشي ويمشي. هكذا يموت الشاعر في الشعر، والشعر ما كان يحمل قضية، قضية يحيا ويموت الشاعر من أجلها، والحقيقة أن جل الشعراء العِظام كانوا أصحاب قضايا سجنوا وعذبوا وحتى قتلوا من أجلها وسميح القاسم كان من طينة الشعراء الذين حملوا موتهم معهم في كل لحظة وفي كل مكان. وبموت سميح القاسم تكون الساحة الشعرية العربية قد فقدت أحد رواد الشعر فيها وخاصة أن الشعر العربي يمر بحالة ركود رهيبة في ظل كثر المسموعات وما أكثرها وكثرة أبالسة الشعر الذين استولوا على المشهد الثقافي وفتحت القنوات الفضائية لهم أبوابها تحت تسمية «أمير الشعراء» كما تم انشاء قنوات خاصة للشعر النبطي على حساب الشعر الفصيح. وبهذا نستطيع أن نقول بأن سميح القاسم مات وفي نفسه غصة مما يُنشر من شعر على أعمدة الصحف، مات سميح القاسم والعالم العربي عبارة عن خلية دبابير في يوم شديد الحر من العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى مصر وليبيا والسودان وبلده الجريح، مات سميح وغزة تحت القصف والحصار. والمجلات وما تطبعه المطابع من دواوين على أنه شعر وما هو بشعر وقبله صاح محمود درويش نفس الصيحة مع صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي وجبرا إبراهيم جبرا بأنهم كانوا سببا في انتشار هذه الرداءة الشعرية تحت ما يُسمى بالحداثة والقطيعة مع الشعر القديم. سميح القاسم مثله مثل الشعراء الكِبار الذين كانت لهم عين على التراث وأخرى على الحاضر وما يحتاجه من أدوات تتلاءم واللغة السائدة ومن هنا جاء شعره بسيطا يفهمه البسطاء من الناس، فيه مقاومة اليأس لكل ما هو قائم من احباطات واكراهات تشد خناقها على المواطن الفلسطيني. نصيرة محمدي/ شاعرة جزائرية لن يأتي سميح! لن يأتي سميح إلى الجزائر،جزائر الدم والورد والزيتون كما سماها.ولن يتمكن قراءه ومحبوه من ملامسة قصائده عن قرب،وسماع صوته ومقاسمته الألم الفلسطيني.لن يأتي سميح ولن يُقبل تراب الجزائر كما كان يفعل في كل مرة يزور فيها وطنا عربيا منحنيا على ثراه،لاثما الأرض العربية الموحدة. لن يأتي سميح ولن تلتحم حناجر الشعراء وأصواتهم في مقدمه المدجج بالحنين والتوق لفلسطين الحبيبة،ولن يكون في مقدورهم تحقيق أمنية عزيزة هي رغبة الإلتحام بقصائده وكأنهم يلتحمون بأرض فلسطين. لن يأتي سميح إلى أرض المليون ونصف المليون شهيد وهو المدان بتهمة البقاء في الأرض والدفاع عن أصالتها وهويتها، وهو الطائر المغرد بالقصائد،المخضب بحناء الأمل وتباشير الشهداء. ومع سميح القاسم نذكر صاحب «سرايا بنت الغول»، و»المتشائل»،إيميل حبيبي الفنان العائد إلى يافا،إميل الذي لم تكن حياته إلا رحيلافي الأرض الأولى، أرض فلسطين بمساجدها وكنائسهاوأزقتها وأشجارها وطيورها ورائحة ترابها ومدنها العتيقة وأهلهاالمشتتين في أصقاع الدنيا.نعي أكثر أن سميح القاسم يظل أحد الرموز الشعرية الكبيرة في الوطن العربيالتي جسدت المعاناة الفلسطينية في شعرها،وصمدت في أرضها مؤكدة على حق البقاء والتمسك بالجذور. لن يأتي سميح القاسم،ولن تكون لنا فرصة للقائه إلا عبر ما ينشره من شعر،وفي بعده نكتشف كم هو قريب منا،قريب قيد شهقة فرح مبتورة.فسماحا سميح..سماحا.كتبت هذا لسميح العام 2002 حين وجهت له دعوة من الجزائر لإقامة أمسية شعرية ولم يستطع االحضور بسبب التأشيرة.وقد جاءني صوته من باريس عبر الهاتف فرحا غامرا ودهشة لا توصف حين مر على مكتبة معهد العالم العربي بباريس التي كان يديرها الكاتب الطيب ولد لعروسي ومرر لي صوته معتذرا عن عدم المجيئ إلى الجزائر بحجة جواز سفره الإسرائيلي. مازالت تلك النبرة الدافئة الرزينة تسكن أذني،وما زال صوته يحفر في قلبي أنا عاشقة فلسطين..أسيرة الشعر،وما زالت غصة مريرة في روحي كغصة إنتظار العاشقة التي تمني روحها باللقاء حتى بعد الرحيل. محمد جميل خضر/كاتب وناقد أردني عندما يغدو الشاعر مجرد «أبو محمد» يفخر بانتسابه إلى أولاده في بهو الفندق، وحولك نحن ومن تعرفهم ومن لا تعرفهم، لا أدري لماذا سكنني شعور طيب جميل عندما تبين لي أن كنيتك هي «أبو محمد».. هكذا لاح لي فور سماعي الصديق الشاعر الراحل قبلك حبيب الزيودي يناديك بتلك الكنية، أنك بتَّ أقرب.. «أبو محمد» كتلك التي نسمعها كل يوم قرب بيوت الجيران وفي كل شارع وناصية وحارة، كأني بك فلاحٌ أنهى للتو حصاد الموسم، أو حدب برفق روحه وأذرع محبته على نبتة منسية هناك في آخر الحديقة. وفي مرة، وذات مهرجان، وقد نسيتك عند أبواب المدينة التاريخية في جرش، حافلة الشعراء، وأكرمْتَني بالعودة وأولادك معي وأولادي، بادرتك منذ أول القول بعبارة «أبو محمد»، خرجت مني متشككة ألا تكون أبو محمد فعلاً، وأن التباساً حدث في لقائنا السابق الذي عرفت فيه أول مرة كنيتك، فالشاعر حبيب الزيودي هو أيضاً «أبو محمد» وله في بكره قصيدة جميلة نظمها فور ولادته، فخشيت أني التبس الأمر عليّ، وعندما سألتني وأنت بماذا ينادونك يا محمد وأخبرتك أن كنيتي هي «أبو حمزة» وصرنا من أول الطريق حتى عتمة مرآب الفندق: أبا محمد وأبا حمزة.. وتبادل أولادنا الأحاديث وأوليات التعارف وهذا في أي جامعة وذاك في أي صف، وإذا بدفء صادق طيب حميم يسري في السيارة، ويلقي بظلاله علينا مع نسمة الهواء الصيفية المليحة الآتية من نوافذ الطريق إلى المدى. تحدثنا في أشياء كثيرة.. وأجبت بروحك وبساطتك الممتنعة عن أسئلة وتساؤلات كثيرة كانت تمور في أعماق وجداني حول عمق الهوية العربية عند أهلنا في فلسطينالمحتلة، وحول المساحة المفترضة بين الشاعر كلحظة إبداعٍ وشهرةٍ ونصٍّ وناس، وبينه كإنسانٍ وأبٍ يسأل عن محل لبيع الهدايا، وعن الأسعار ومستوى التعليم في الأردن، وأحوال الجامعات والشوارع والازدحام والمطاعم الشعبية وما إلى ذلك، ويسهب في الحديث عن إنجازات واحد من أولاده، وطبائع الثاني وعجائب الثالث. الكنية عادة عربية. ففي الغرب لا يُقبل نسب الكبير إلى الصغير، ولكنها في حالتك صديقي الراحل الحبيب سميح القاسم، حملت نكهة خاصة، تواضعاً مشعاً بالزهو والحميمية، وَمَسَحَتْ بِجَرَّةِ صدقٍ تلك الفروقات المتهالكة بين من يُسمّي محمد ومن يُسمّي جريس ومن يُسمّي علي ومن يُسمّي رسلان!!!. في الطريق بين جرش وعمان، كنت «أبو محمد» إنساناً، وشاعراً، وأباً، وصديقاً، وأخاً، كنت منارة مشعة بصوتك المؤثر العميق، وحضورك الأخاذ،وفلسطينيّتك التي لا تخطئها عين. كنت أنت القصيدة نفسها، لا تلك التي تطوعها روحك وتستسلم حروفها لك، وتتهيأ لبعض «عبقرك»، وخزان صورك، كأحلى امرأةٍ يغازلها أجملُ دون جوان، فسلاماً لك وسلامٌ عليك. إدريس علوش/ شاعر مغربي شاعر أقام طويلا في أتربة القصيدة أقام الشاعر الفلسطيني سميح القاسم طويلا في أتربة القصيدة، عايش مواسم الحرث والزرع والحصاد ومواسم القطاف على مدار تحولات مجرى مياهها ومصبها وجدل الفصول والأيام ودورات الحياة، من الأرض إلى البيادر، وبمعنى آخر أدق أو أوضح من فلسطين إلى فلسطين، فلسطين التي تتعدد في الفكرة والإبداع والكتابة، الوحيدة والموحدة ساعة يتعلق الأمر بإدارك خلفيات الغاصب وعدائه للشرعية وللغد دونه-طبعا-لأن المستقبل كعادته ينشد الأفضل والأجمل ولا يحتاج للمحتال والمحتلْ. في ظل شرّك هذه الحيوات المسنودة إلى دم القصيدة كان سميح القاسم يتجدد في الصورة، في المتخيل، في الإستعارات التي تليق بفلسطين وبأفق القصيدة كما فعل محمود درويش ساعة أعلن أنه لا يريد لهذه القصيدة أن تنتهي وإن كان بشكل مغاير ومختلف ومتنوع وهو شأن جعل شعراء فلسطين الذين بحكم الممارسة النصية أدركوا فعل التباين والتميز وتفعيل سبل الإختلاف وشروطه بين قصيدة وأخرى بحثا عن المغايرة كقيمة جمالية وليست تراكمية فحسب، وهذا سر امتداد سلالة هذه الدوحة الشعرية الوارفة التي أنجبت فدوى طوقان وتوفيق زياد ومحمد القاسمي وأحمد دحبور وشعراء بحجم نجوم السماء أو أكثر. بترجل سميح القاسم الشاعر الفلسطيني والإنسان -الآن كما تشاء ذخيرة حكمة الوقت وتجربة الكائن معا- عن صهوة القصيدة الممانعة والمقاومة والتي تستحضر بقوة الصور والمتخيل والإبداع وشروط تزامنها مع سيرورة القضية الفلسطينية والتأريخ لها ماديا وموضوعيا ورمزيا بمضامين إبداعية عالية. ولأنها القصيدة خيار الشاعر وقراره الأسمى في الأمكنة وسر انشطارها في الزمن والأزمنة، سيبقى سميح القاسم ومعه شعراء الفعل الإبداعي المقاوم لغطرسة الكيان الصهيوني علامة دالة في إثراء عمق وجوهر الثقافة الفلسطينية المنتصرة في أساسها لقيم العدل والحق والجمال والتحرر. صحيح رحل سميح القاسم لكن قصيدته ستبقى منارة تحدد لسفن العودة سبل الطريق والوصول للمرفأ والميناء وشاطيء الأمان والنجاة فلسطين في حلة القصيدة والمستقبل. عبد السلام العطاري/ شاعر فلسطيني هو واحد من الذين أبدعوا بمرافعتهم التاريخية بحق مفهوم القصيدة المناضلة القاسم، ثالث اثنين، توفيق زياد ومحمود درويش، الذين أبدعوا بمرافعتهم التاريخية بحق مفهوم القصيدة المناضلة والمعاندة المحرضة والمحركة لفعل النضال الفلسطيني التاريخي، فكان القاسم المجالد العنيد المدافع الصلب الذي رفض رغم كل ظروف القهر والتنكيل أن يغادر جليله الفلسطيني وبقي راسخا عاليا على قمة جبال التاريخ الكنعانية التي تشهد على عمق ولادة الفلسطيني من رحم الأرض التي نقش كنعان الجد اسمها على كاحلها ووشمها بضاد الله ولغة كتابه العظيم، فاشتق القاسم صلابته من زند «عوج بن عناق»أسطورته ومن «عنات» جمال المعنى ومن «بعل» سهوب شعره الأخضر كنعناع باب بيت على ساحة بئر في «الرامة» الجليلية الفلسطينة، فصار ثالث الثالوث الشعري المقدس، وبقي على اتساع الساحل يعطي «مرج بني عامر» زاده من بحر يحرسه «الكرمل» العالي ويؤنس ليله في عتمة الاحتلال الموحش، بقي القاسم صنو البلاد بشواهدها المكانية، وبقي القاسم شبيه معانيها ولم يرحل حتى احتضنته بحبها وعاد إلى أمه الأرض التي أحب.