مريم بزاز.. إبنة الجبل التي تحلم بأن تكون طبيبة عالمية تصحح أخطاء الأساتذة وتعرف بذاكرتها القوية طعم التفوق في البكالوريا له نكهة خاصة في بلدية أولاد يحيى خدروش الجبلية النائية و الفقيرة التي تقع على بعد 60 كلم شرق ولاية جيجل، أين حصلت ابنة المنطقة التلميذة مريم بزاز من ثانوية غراز الشريف، على أعلى معدل بالولاية و هو 18،47. افتكاك التلميذة بزاز المقيمة بمنطقة جبلية تفتقر للوسائل و الإمكانيات الضرورية التي نراها في المدن من مكتبات و قاعات الانترنت و حتى شبكات النقل، يشكل حديث الجميع بجيجل، في حالة تذكر سكان الجهة بمرحلة الثورة و ما بعد الاستقلال التي أخرجت من الجبال رجالا و نساء قدموا الكثير للجزائر، النصر وأثناء محاولة الاتصال بصاحبة أعلى معدل بالولاية و أهلها، اعتمدت على منشور سيدة عبر إحدى صفحات الفايسبوك ، فاتصلنا بها عبر رسالة،فأخبرتنا بأنها كانت أستاذتها منذ عامين في مادة العلوم الطبيعية ، و لا تزال تتذكرها لأنها ذات أخلاق عالية و مجتهدة، و كان هذا هو المؤشر الأول الذي قادنا للقاء مريم. توجهنا إلى بلدية أولاد يحي خدروش ، وبعد مرور ساعة من الزمن، قصدنا أعالي جبال جيجل ، فلاحظنا ضعف المستوى المعيشي بالمنطقة و غياب المرافق الضرورية، وصلنا إلى مقر الثانوية الوحيدة المتواجدة بالمنطقة ، وشاءت الصدف أن نلتقي هناك بالتلميذة مريم رفقة والدها و الطاقم التربوي للثانوية و مظاهر الفرح بادية على وجوههم. الأساتذة تنبئوا جميعا بمستقبل زاهر للفتاة، مؤكدين تمتعها بأخلاق عالية و اجتهادها و تفوقها في دراستها طيلة السنوات الدراسية التي قضتها بالثانوية. أستاذة العلوم الطبيعية، قالت بأن مريم لها قدرات كبيرة و أغلب علاماتها في هذه المادة تجاوزت 18 ، أما أستاذة اللغة العربية فأكدت بأنها لبقة في تعاملاتها معها ، و عندما تجد مريم خطأ في السبورة، تتصرف بطريقة لا تحرج فيها الأستاذة ، فهي متمكنة في التعبير و الإعراب و علاماتها ممتازة، معترفة بأن حلمها طيلة الأعوام الماضية هو أن تدرس مريم، لكون الحديث في الثانوية كثر حول مدى تفوقها. أستاذ الاجتماعيات أكد من جهته، بأن مريم لم تتغيب إلا مرتين طوال الموسم الدراسي، مرة بسبب مشاركتها في مسابقة ما بين الثانويات، و يوم آخر مرضت فيه، كما تذكر موقفا حصل له مع التلميذة بطرحها سؤال لم يتوقعه و لم يستطيع الإجابة عنه إلى يومنا هذا، و منذ ذلك اليوم وهو يتعمد وضع بعض الأخطاء حتى يرى مدى تفطنها لها ، فكانت دائما ترفع يدها لتستفسر عن المعلومة و تصححها. أما أستاذة الفلسفة فقد عصت أوامر المدير، حيث رفضت تغيب مريم عن أحد الدروس، بسبب توجهها للمشاركة في مسابقة ما بين الثانويات، أما أستاذ الفرنسية فقد كان مبتسما و هو يقول « كان لي شرف تدريسها طيلة ثلاث سنوات». مدير الثانوية من جهته أثنى على أخلاق و مجهودات مريم ، فرغم أن الثانوية تعتمد على طاقم تدريس لا يمتلك خبرة كبيرة لكون أغلبية المدرسين جدد، لكن ذلك لم يمنعهم من أداء واجبهم ، حيث أشرف رفقتهم على تقديم الدعم لمريم و زملائها، حيث تم وضع الوسائل اللازمة و الإمكانات المتوفرة للتلاميذ، معتبرا بأنه إنجاز كبير و شرف للثانوية و المنطقة أن تحوز التلميذة التي وثقوا في قدراتها على المرتبة الأولى بالولاية. لدى اطلاعنا على نتائج الفصل الثالث التي حصلت عليها مريم اكتشفنا بأن ملاحظات الأساتذة تركز على عملها الممتاز و سلوكها الرفيع، حيث تضمنت عبارات تعبر عن اعتزازهم وتوقعاتهم بمستقبل واعد للتلميذة ، فأستاذة الفلسفة أدرجت ضمن ملاحظات كشف النقاط عبارة « فخورة بتدريسك «، أما أستاذة اللغة العربية فأدرجت عبارة « لك مستقبل زاهر» . بعدها توجهنا إلى منزل مريم في موكب من السيارات، شبيه بما يقام في الأعراس ، أين أوصلتها أستاذة بسيارتها رفقة بعض الأساتذة ، و لدى وصولنا إلى منزلها استقبلتنا الأم بالزغاريد، رفقة أفراد من عائلتها و جمع من الجيران و أصدقاء العائلة. «لم أهتم لما كان يقال حول المواضيع المسربة» لدى حديثنا مع مريم ، أكدت بأنها جد مسرورة و فرحة، لكونها تحصلت على أعلى معدل بالولاية،و أن ذلك كان ثمرة لاجتهادها الذي بدأته في مرحلة التعليم الابتدائي ، أين درست بدوار بوعقبة المتواجد بأعالي جبال المنطقة، حيث كانت تلقبها معلمتها ب»نجمة القسم» ، لأنها كانت تحصل دائما على المراتب الأولى بالمدرسة ، كما كانت تصفها بصاحبة «الذاكرة القوية»،لكونها تتذكر كل ما يقدم لها من دروس، أين تحصلت على معدل 8,40 آنذاك، لكن الفرحة لم تدم لكونها كانت خائفة من أن تتوجه للدراسة في متوسطة بعيدة عن منزل عائلتها، لكن ذلك الخوف لم يدم طويلا ، لكون الوالد أخبرها بأنهم سيغيرون مكان الإقامة إلى منزل قريب من متوسطة بوزيوغ محمد التي درست بها مرحلة المتوسط و كانت ضمن الأوائل بها ، حيث تحصلت على المرتبة الأولى بمعدل 17,94، هذا الأخير أعطاها دفعا قويا لكي تبذل جهودا أكبر لتحقق أحلامها. عندما توجهت إلى ثانوية غراز الشريف حافظت على نفس الترتيب، حيث كانت ضمن الأوائل ، و لكنها وجدت صعوبة في مادة الفيزياء ، إذ تعتبر المادة الوحيدة التي تابعت فيها دروسا خصوصية، استعداد لامتحان البكالوريا ، و قد أشارت مريم بأن القليل من تلاميذ المنطقة يتابعون دروسا خصوصية لكون المنطقة بعيدة و لا يوجد بها نقل مدرسي. عن طريقة التحضير للبكالوريا ، قالت:» لقد كنت أحضر بشكل دائم و مستمر منذ الأيام الأولى من الدراسة، حيث أن هناك مواد تتراكم فيها المعلومات ، و لابد من أن تكون متمكنا منها منذ السنة الأولى ثانوي ، كنت أراجع إلى غاية منتصف الليل ، كما كنت أساعد شقيقاتي في دراستهن. و من منبر النصر أود ان أنصح كافة التلاميذ بضرورة التوكل على الله و الثقة في النفس، و المراجعة الجيدة ، و العبرة ليست بعدد الساعات التي تدرسها بل بالنوعية، و أشير هنا إلى أنني و قبل حلول موعد الامتحان النهائي، أنقصت قليلا من ساعات التحضير، حتى لا أرهق نفسي أكثر». والدا مريم: إبنتي غير متطلبة وتساعد في أشغال البيت عن أجواء امتحانات البكالوريا في المرة الأولى، أكدت بأنها كانت متخوفة بشكل كبير ، حيث وجدت صعوبات في بعض المواد . وعن مسألة تسريبات المواضيع و مدى تأثيرها عليها، أوضحت بأنها لم تكن تستعمل الانترنت، لكون والدها لا يحب ذلك، لأنه كما يعتقد قد يؤثر سلبا على دراستها هي و إخوتها، موضحة، «لم أحاول أبدا أن أعرف ما يقال حول التسريبات، فهمي الوحيد كان التركيز على الامتحانات ، و أنا بطبعي إنسانة لا أحب الغش، لكني صدمت عندما علمت بأنه سيتم إعادة الامتحان في بعض المواد، قضيت فترة و أنا أبكي ، لكني استجمعت قواي و توكلت على الله، و قمت بتحضيرات خفيفة رغم الأجواء الصعبة للصيام و الحرارة في شهر رمضان، و قد زال قلقي أكثر عندما وجدت أن الامتحانات في المرة الثانية، كانت أسهل خاصة في مادة الفيزياء ، و أغلب الأسئلة كانت في متناولي». و أكدت مريم من جهة أخرى بأنها كانت تتوقع حصولها على شهادة البكالوريا مضيفة:» اطلعت على الإجابات النموذجية ، و قد وجدت أن معدلي يقترب من 18 ، و أصارحكم بأني كنت متخوفة من نتائج مادة الفرنسية و الاجتماعيات، رغم أني كنت متمكنة منهما طوال السنة الدراسية، و أعتبر تتويجي بأعلى معدل في الولاية، هو رد للاعتبار لثانويتنا التي أحسسنا بأنها ظلمت في العديد من المسابقات التي كنا نشارك فيها ، أين استغربنا من عدم تحصلنا على المراتب الأولى، خاصة في المسابقة الفردية التي شاركت فيها». عن هوايتها المفضلة، أكدت مريم بزاز بأنها تحب المطالعة و كتابة الخواطر ، كما أنها تحب مساعدة والدتها في أشغال المنزل، لكن والدتها كانت تمنعها و تطلب منها أن تركز على دراستها. و لم يمنعها ذلك من تعلم تحضير بعض الأكلات كالكسكسي. عن أحلامها أخبرتنا مريم، بأنها تريد أن تصبح طبيبة ذات صيت عالمي في المستقبل ، لكون الطب مهنة شريفة و في المناطق النائية يجد المواطنون صعوبة في توفر الأطباء. هذا ما أعطاها دفعا،لتسعى أن تكون ضمن الطاقم الطبي الذي يكفل علاج المرضى بالمناطق المعزولة ، كما تريد أن تكتشف دواء جديدا لعلاج المرضى. بلدية يحيى خدروش فخورة بالفتاة الخجولة والهادئة الأجواء بمنزل عائلة مريم كانت تشبه أجواء العيد حيث أعرب والدها الحاسن بزاز عن فخره بالنجاح الذي حققته مريم قائلا: «ابنتي ردت إلي الاعتبار، فقد كنت محرجا عندما كانت تدرس في الطور المتوسط و حصلت على أعلى معدل بالمتوسطة التي كنت أعمل بها ، لكوني كنت المشرف على برنامج وضع النقاط خلال تلك المرحلة، وهي اليوم و بهذا التتويج أزالت هما كبيرا من على كاهلي، تعتبر مريم الابنة الأكثر هدوءا بين أبنائي الستة ، فهي لا تكلفني كثيرا بطلباتها المحدودة ، و إذا أرادت أن تشتري شيئا تسأل والدتها إذا كنت أملك نقودا أم لا، و أغلب طلباتها متعلقة بشراء الكتب و الأمور المتعلقة بالدراسة. والدة مريم قالت من جهتها:» أنا جد فرحة لكوني أم لابنة مثل مريم، فهي هادئة لدرجة كبيرة ، و كلمة الحمد الله لا تفارق لسانها، و تحافظ على الصلوات الخمس في مواعيدها، و تعرض علي دائما المساعدة في أشغال المنزل ، لكنني كنت أرفض ذلك ، لأني كنت حريصة على أن تدرس و تتفوق في دراستها». أثناء تواجدنا بمنزل العائلة لاحظنا توافد العديد من الجيران و الأقارب عليه لتقديم التهاني و التبريكات، و الزغاريد التي لم تنقطع طيلة زيارتنا لها.