السياسة لدينا محكومة بضغوط الحاضر و بمنهجية رد الفعل والاستعجال تمنيت لو أن أمي رأت الكتاب الذي كتبت عنها قبل أن تموت يرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر، ومدير "مركز الدراسات التطبيقية والاستشراف"، الدكتور محمد سليم قلالة، بأن مهمة الدراسات المستقبلية ليست التنبؤ، بل وضع السيناريوهات البديلة والدفع باتجاه تحقيق إحداها، ويرجع سبب اختلاف مسار الثورات العربية إلى تباين البيئات؛ فالبيئة الأكثر انفتاحا على مجتمع المعرفة مصر وتونس هي الأقدر على التحرك بفعالية. تناولنا في حوارنا مع الأستاذ قلالة إلى جانب الحاضر والمستقبل التاريخ على ضوء كتابه الأخير الذي يحمل عنوان: "حلم والدتي، مذكرات أرملة شهيد وابنيها 1958 – 1999". ورغم تحليله المر للواقع إلا أنه لا يزال متفائلا بالمستقبل: حاوره: نورالدين برقادي كتبت في الصحافة منذ الثمانينيات، وفي العام 1993 أسست أسبوعية "الحقيقة"، كما أدرت فيما بعد يومية الأحداث، كيف يقرأ الأستاذ قلالة واقع الصحافة الجزائرية اليوم، على ضوء التحديات التي تواجهها الجزائر في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين؟ الصحافة الجزائرية اليوم تبحث عن النوعية، نوعية الكتابة ونوعية الفكرة، ونوعية الرسالة، ونوعية الأقلام. لقد تخطت الصحافة الجزائرية مرحلة الكم العدد الكبير من الصحف، والعدد الكبير من القراء، والكميات العالية من السحب، شيء جميل هذا، لكن ينبغي ألا يكون على حساب نوعية الكتابة، نوعية الأفكار التي تُطرح، وإن شئت نوعية الرسالة التي تُحمل. أشعر اليوم بطغيان الحدث و ردة الفعل اللحظية، على التحليل وتقديم عناصر الرؤية التي يمكن من خلالها أن يضبط القارئ وجهته. أحس بأن ردة الفعل هذه، هي التي أصبحت تحكم الكتابة والقراءة لدينا، وليست النظرة البعيدة أو الرؤية أو حتى الحلم كما كان في السابق. لم نكن واقعيين في بداية الثمانينات بالقدر الكاف وحتى في بداية التسعينيات، كنا نحلم ونطمح أكثر من إمكانياتنا، أما اليوم فقد أصبح الكثير منا موغلا في الواقعية في الآنية في الحدث اليومي، وكلا الموقفين في حاجة إلى تصحيح باتجاه الرؤية المتوازنة والمعتدلة التي تسعى إلى المساهمة في صناعة المستقبل من خلال مختلف الوسائل بما في ذلك الإعلام. وهذا يحتاج إلى مزيد من الجهد، إلى مزيد من الانتقائية في الكتابة والقراءة، إلى مزيد من الفرز لنصل إلى الأصلح. والحل لا يكمن في إيجاد نخبة من الصحافة إنما أولا وقبل كل شيء في إيجاد نخبة من القراء. وهذه ليست مهمة وسائل الإعلام وحدها، هي مهمة الأسرة والمجتمع والمدرسة، ولكي يتحقق ذلك ينبغي أن تكون لدينا سياسة إعلامية وتكوينية ذات غاية إستراتيجية واضحة هي إنشاء أجيال تؤمن بالنوعية وترفض الرداءة في أي مستوى كان و في أي منحى من مناحي الحياة بما في ذلك الكتابة الصحفية. تحتل الدراسات المستقبلية مساحة هامة ضمن كتابات الأستاذ قلالة، أين نحن في الجزائر من الدراسات المستقبلية من الناحيتين العلمية (النظرية) والواقعية (التطبيقية)؟ نشعر بالحاجة إلى ذلك ولكننا غير قادرين على الانطلاق فيها، لأن مثل هذه الدراسات هي منهجية في الحياة قبل أن تكون تقنيات عمل، ونحن سواء كنا نقصد ذلك أم لا، نعيش نقيض هذه المنهجية تماما. المنهجية السائدة عندنا تستند إلى ركيزة واهية هي الاستعجال وعدم الاستباق ورد الفعل. مازلنا نعتبر المخططات الاستعجالية في أي قطاع من القطاعات أمرا عاديا، والقرارات الناتجة عن الاستجابة لضغط الشارع أو المحيط هي قرارات سليمة، مازال السياسي و الإداري عندنا يتحرك ضمن الاستعجال، كرجل المطافئ، باستمرار تحت ضغط قلة الخيارات وأحيانا تحت ضغط الخيار الوحيد والذي لن يكون أبدا هو أفضل خيار، عندما تكون النار قد اشتعلت. وفي ظل هذه الحالة تتعدد القرارات الجزئية المرحلية وتغيب القرارات الإستراتيجية البعيدة المدى التي تصنع المستقل. فكما يقول الاستشرافيون: كلما كثرت القرارات الصغيرة غابت القرارات الكبيرة، وفقدنا القدرة على التفكير الاستراتيجي. هذا يحصل لدينا في الكثير من المستويات ونعيش انعكاسات غياب هذا النوع من القرارات المبنية على الاستشراف الاستراتيجي، في ظل ما نرى من قرارات محدودة في الزمان والمكان. ونحن ندرك ذلك ونعيه ولكننا لا نستطيع أن نغيره، لأننا لم نتمكن من تحرير أنفسنا من ضغوط الحاضر ومنهجية التفكير السائدة، ومهما كانت الجهود التي تُبذل في هذا المجال، ولو بتأسيس وزارة للاستشراف، لن نتحرك، لأن المسألة لا تتعلق بإنشاء هيئة جديدة إنما بتغيير نمط تفكير كلي وهذا يتطلب مراجعة على أكثر من مستوى، تطبيقي ونظري الغائبين معا. الدراسات المستقبلية تعتمد على وضع السيناريوهات، فما هي السيناريوهات المحتملة للجزائر، على المدنيين المتوسط والقريب، اعتمادا على هذه الدراسات ؟ لا يمكننا تقديم سيناريوهات عن مستقبل الجزائر من غير القيام بدراسة معمقة عن المتغيرات الرئيسية التي تحكم بلدنا. نحن لحد الآن لا نعرف ما هو المتغير الرئيسي الذي يتحكم في تطور بلادنا إلا من خلال الانطباع أو الاستشفاف الخارجي. لم نقم بدراسات متعددة التخصصات لاستخراج المتغيرات الرئيسة التي ستتحكم في تطورنا المستقبلي، ولم نقم بمتابعة افتراضات تطور هذه المتغيرات في العشرين سنة المقبلة مثلا، ولا قمنا برصد التوفيقات الممكنة التي تشكلها العلاقات بين هذه المتغيرات لنستخلص السيناريوهات الجزئية ثم الكلية لبلادنا. لم يتم هذا في حدود علمي داخليا، ولكني متأكد أن القوى الراصدة لتطور بلادنا والمهتمة بمصيرها تقوم بمثل هذه الدراسات السرية بالتأكيد، في محاولة منها لصناعة مستقبلنا من خلال سيناريو مُفَضل لديها. وإذا لم نتمكن نحن بأنفسنا من رسم السيناريو الخاص ببلادنا فسنجد أنفسنا بكل تأكيد جزء من ذلك الذي صنعه لنا غيرنا، باعتبار أن المستقبل يُصنع الآن بالكيفية التي يُصنع بها الحاضر، وإذا لم تصنعه لنفسك يصنعه لك الآخرون. وانا أميل اليوم أننا ما زلنا لا نملك السيناريو المرجعي الذي يحكم حركتنا في القرن الحادي والعشرين، والسبب في ذلك أن السياسة لدينا كما أسلفت محكومة بضغوط الحاضر بمنهجية رد الفعل والاستعجال، سمة التفكير البسيط وغير الاستشرافي، وهذا وضع غير طبيعي تماما. هل تنبأ خبراء الدراسات المستقبلية بما حدث ويحدث في المنطقة العربية، بداية بتونس ومصر ثم ليبيا، اليمن، سوريا..؟ وما هي العوامل التي ساعدت على انتصار الثورات في المجموعة الأولى وغابت في المجموعة الثانية؟ قليلة هي الدراسات المستقبلية التي تتنبأ بما يحدث، ذلك أن هذه ليست مهمتها. مهمة الدراسات المستقبلية ليست التنبؤ لأن المستقبل ليس محدد سلفا حتى يمكن التنبؤ به، مهمتها هي وضع السيناريوهات البديلة والدفع باتجاه تحقيق إحداها والتكيف باستمرار مع المستقبلات الفرعية التي تظهر وتكييف السيناريو الكلي معها. بدون شك كان للأمريكيين سيناريو عن مستقبل المنطقة العربية في القرن الحادي والعشرين فيما عُرف بالشرق الأوسط الكبير، وكان هناك عمل لأجل تحقيقه وملايين الدولارات كانت تُصرف لأجل ذلك تحت تسميات متعددة كالمساعدات من أجل الديمقراطية أو غيرها، إلا أن هذا لا يعني أن الأمريكيين هم من صنعوا الثورات العربية. الأمريكيون اليوم والغربيون عامة هم بصدد تكييف سيناريواتهم مع العناصر المستقبلية الجديدة لدفعها باتجاه خدمة السيناريو الذي يخدم بطريقة أفضل مصالحهم. وعلى القوى الفاعلة في العالم العربي والمتحركة حاليا في الساحة أن تدرك ذلك وتمنع استدراجها ضمن السيناريوهات المعدة سلفا (ليبيا مثلا)، وتسعى لوضع سيناريوهات بديلة وواضحة لديها على المديين المتوسط والبعيد. وإذا لم تفعل ستُسرق منها الثورة ويتم تعطيلها لسنوات كما عُطلت ثورات التحرير في حدود معينة. أما لماذا لم تأخذ الثورات مسار بعضها البعض فهذا ناتج أنها نابعة من بيئات مختلفة، وهو دليل آخر على أصالتها. ولحد الآن كانت البيئة الأكثر انفتاحا على مجتمع المعرفة مصر وتونس هي الأقدر على التحرك بفعالية، والبيئة الأكثر انغلاقا هي الأقل قدرة، إذ ينبغي أن نؤكد أن السبب الرئيس في الثروات العربية هو اختلال المعادلة بين مدى انتشار المعرفة le savoir بين شرائح واسعة من المجتمع ومنع إعادة توزيع السلطة بما يتناسب مع ذلك من قبل الحاكمين، بل والزيادة في احتكار السلطة. وإذا انطلقنا من هذا فسنجد بأن طرفي المعادلة في تونس ومصر كانا أكثر اختلالا منه في البلدان الأخرى، إما في طرف الانتشار الأوسع للمعرفة أو الاحتكار الأكبر للسلطة. ليبيا مثلا كان احتكار السلطة كبيرا ولم يكن هناك انتشار واسع للمعرفة في المجتمع وتدخل واضح للسيناريو الأجنبي، فكانت المواجهة بالسلاح هي الأولى عكس مصر وتونس. لولا وجود وسائل التواصل الحديثة (فايس بوك، تويتر، يوتيوب)، والقنوات الفضائية هل كان بالإمكان قيام هذه الثورات؟ كما أسلفت أسباب الثورات أعمق هي في اختلال موازين معادلات كثيرة كالتي ذكرت سابقا، (المعرفة السلطة)، (المستقبل السلطة)...الخ، وفي عجز السلطات الحاكمة أمام المستقبل. أجيال بكاملها تتطلع إلى مستقبل جديد وقوى حاكمة لا تنظر إلا لحاضرها وفي أحسن الأحوال إلى مستقبلها الخاص، ليس إلى مستقبل دولها أو حضارتها أو قيمها. وفي جميع الحالات هي على استعجال، المشكلة تكمن هنا. أما الفايسبوك وغيرها فما هي إلا أدوات للتغيير يمكن أن تستخدم للثورة كما يمكنها أن تستخدم للثورة المضادة، لها نفس دور السلاح في ثورات التحرير الكبرى. كان وسيلة غربية ولكنه استخدم لأجل التحرر، وفي بعض الأحيان تم تحويله إلى ما هو ضد الثورة. وهذا ما ينبغي ألا يحدث في البلدان العربية. بعد كتابك "التغريب في الفكر والسياسة والاقتصاد"، أصدرت مؤخرا، كتابا جديدا عبارة عن مذكرات حملت عنوان: "حلم والدتي، مذكرات أرملة شهيد وابنيها 1958 – 1999"، ما هي قراءتك لعملية كتابة تاريخ الثورة. من حيث الدراسات التاريخية، الكتابة الأدبية والصورة السينمائية؟ من أسباب كتابتي هذا الكتاب فضلا عن تحقيق حلم والدتي، هو أنني أحسست بأن هناك فئة واسعة من الجزائريات لم تأخذ حظها في كتابة تاريخ الثورة: أرامل الشهداء والنساء الريفيات والبدويات بشكل خاص. مساهمتهن كانت كبيرة ولكنها منسية. كم من كتاب تم تأليفه عن أرامل الشهداء ودورهن بعد استشهاد أزواجهن وهن في مقتبل العمر؟. كم من كتاب سجل بطولة النساء البدويات الريفيات والفقيرات؟، لا أذكر كتابا واحدا. لقد قلت في مقدمة كتابي عن والدتي أنني أعرف بأن تضحيتها من أجلي ومن أجل أخي هي بالتأكيد مشابهة بل صورة طبق الأصل لتضحيات ملايين الأمهات والنساء الجزائريات مثلها اللائي لم ينتبه لهن أحد. وقد سعيت لأن أصف بدقة ما عشته معها وأنا طفل، حياتها وحياتنا وكيف استطاعت من غير أية وسائل تذكر أن تمكننا من أرقى درجات العلم وأن تحقق أمنية الشهيد الأولى والأخيرة أن يرى أبناءه يكبرون في بلده معززين مكرمين متعلمين غير مقهورين. ليس هذا بالأمر اليسير صدقني، وكل من عاشه يعرف ذلك تماما وأحيانا أكثر مني، لقد سمعت عن أرامل شهداء ونساء حرائر في القرى والمداشر خاصة، كيف كابدن وعشن من أجل الجزائر ما لا تكفي مجلدات للتعبير عنه ومع ذلك لا أرى إلا طي النسيان يلفه كل يوم، وتنساه الأجيال عاما بعد عام. من خلال كتابتك لهذه المذكرات، حققت حلم والدتك، ما هو إحساسك بعد إنجاز هذا العمل؟ تمنيت لو أني أنجزته وهي على قيد الحياة لتحمله بين يديها وتفتخر به وإن لم تكن بقارئة. لقد كانت تحثني على القراءة بتصفح كتب أمامي وكأنها تقرأ. لم أعرف أنها لم تكن تقرأ إلا عندما كبرت. كنت أتمنى أن تتصفح هذا الكتاب أيضا قبل أن تفارق الحياة... في العدد الأول من أسبوعية الحقيقة (15/12/1993م)، كتبت ما يلي: "كل الأرقام التي اقرأها وكل الدراسات التي تمر بين يدي وكل التعاليق التي أسمعها وكل التوقعات التي يتوقعها الخبراء تقول شيئا واحدا: أنه علينا أن نرفع الراية البيضاء.. ومع ذلك أقول لا أسف، لا أسف ... فالحياة هي لحظات وليس قرون، وبإمكاننا في لحظة واحدة، نسمّيها لحظة القدر أن نتحول من أمة إلى أمة.. ونختزل الألف شهر في شهر ونطوي الزمن طيا لنلتحق بهم ونوازيهم ونتفوق عليهم.. هذه اللحظة يمكن أن نصنعها.."، بعد مرور 18 سنة عن كلامك هذا، هل لازلت محافظا على تفاؤلك أم أن ما مرّت به الجزائر خلال هذه الفترة جعلك تعيد حساباتك ؟ نعم. إن ليلة من ليالي القدر خير من ألف شهر. أي قد تفوق في سرعة تأثيرها سرعة تأثير ألف شهر. ومازلت متأكدا أنها قادمة ذات يوم. أستاذ قلالة، ماذا توفّر في التجربة التنموية في ماليزيا وتركيا، ولم يتوفر في تجارب البلدان العربية ؟ مسألة جوهرية: هذه البلدان شكلت لنفسها صورة مرجعية عن مستقبلها ورؤية متكاملة، ولم نتمكن نحن من ذلك، بقينا أسرى ضغط الحياة اليومية، لم نحرر الآفاق.. لم نفتح أبواب الأمل واسعة. هذا هو الفرق الجوهري. تدير "مركز الدراسات التطبيقية والاستشراف" منذ سنة 2009، ماذا حقق هذا المركز من إنجازات ؟ يحافظ على الأمل في أن ننتبه ذات يوم أن مشكلتنا ليست مع الحاضر أو الماضي إنما هي مع المستقبل. ويسعى للقيام ببعض الإصدارات لنشر ثقافة الاهتمام بالمستقبل. كدراسة عن مراكز الفكر في العالم، وترجمة لكتاب الاستشراف الاستراتيجي للمؤسسات والأقاليم ستنشره اليونسكو، ونشر دراسة أخرى من 600 صفحة عن مستقبل إيران 2020، والمساهمة في توفير بعض الأدوات المنهجية والمعرفية للمهتمين بالدراسات المستقبلية وإعداد السيناريوهات. كل هذا من غير أية إمكانيات، بجهودي الفردية فحسب... يكفي أنني أفكر الآن في ثمن تجديد كراء المقر، الذي قد لا يتجدد.