مرّة أخرى أزور إسطنبول... وفي كلّ مرّة أكتشف الجديد، التاريخ في هذه البقعة الهاربة من بيزنطا العظمى إلى آل طغرل اسمها وحده يكفي لتعرف مدى أهمية المكان في التاريخ والجغرافيا إنّها القسطنطينية.. هناك تجد نفسك محاصرا بالتاريخ رغمًا عنك، كلّ زاوية تنبعث منها روائح الحكايات وتكاد عيونك ترى سلاطين وبشوات بعمائم ومتمنطقين بسيوف وخناجر وأنت تلمس الأحجار القديمة تتناهى إلى سمعك الحكايات والمؤامرات والدسائس... ما لمسته في زياراتي المتكرّرة لمدينة إسطنبول حرص الدولة على إحياء تاريخ المدينة بكلّ عناية وما تحمله المدينة من تنوعات واختلافات. فقد خصصت ميزانية ضخمة لترميم كلّ جامع وحمّام وزقاق وسوق وكنيسة...إلخ وما أكثرها. في مدينة إسطنبول وعند أحد محطات الترامواي تقع منطقة (طوب خانه) أو (سبيل الماء) بالضبط ببلدية الفاتح والتي تعتبر أحد المعالم السياحية في إسطنبول ومركز صناعة المدافع في الدولة العثمانية وما حرصت عليه كجزائري في إسطنبول هو البحث عن كلّ ما له علاقة بالجزائر في العهد العثماني كيف لا وأنا أقف قُبالة الباب العالي في حضرة السلاطين العثمانيين فأوصلتني معرفتي الحديثة باللّغة التركية لأحد اليافطات موضوعة على جدار أحد المساجد هناك تدل إلى ضريح حاكم عام الجزائر وهو مسجد كان بناه في حياته وكانت المفاجأة عظيمة لما عرفت بقصة هذا الحاكم وما قدمه للجزائر في عهد الدولة العثمانية لما كانت في أوج قوّتها. إنّه بايلرباي الجزائر «العلج علي» واسمه الأصلي هو جيوفاني ديوفيتشي كولّيني، ولد بكاليبريا جنوبإيطاليا وسمي بالعلج وجمعه علوج وهم النصارى ويُقال العلج للنصراني الّذي اعتنق الإسلام ومؤنثه علجية وهو اسم شائع عندنا في الجزائر. أخذ جيوفاني أسيرا من طرف خير الدين بربروس وهو لا يزال في مقتبل العمر، اعتنق الإسلام وتقلّد عدة مناصب وأصبح يتدرج فيها إلى أن عيّنه السلطان سليمان القانوني بايلرباي الجزائر وشمال إفريقيا سنة 1560م من إنجازاته، مساعدة ثورة مسلمي الأندلس بجبال البشارات بإسبانيا سنة 1569م وتحرير مدينة تونس من يد الإسبان سنة 1574م، إنقاذ 80 ثمانين سفينة حربية أغلبها من أسطول الجزائر سنة 1571م في معركة ليبانتي التي تدمرت فيها أغلب سفن الأسطول العثماني (في هذه المعركة تمّ أسر الكاتب الإسباني الشهير ميغال دي ثيربانتس صاحب رائعة دون كيخوته من طرف البحّارة الجزائريين)، استيلاؤه على راية سفينة قيادة أسطول مالطا.. هذا العمل جعل السلطان العثماني سليم الأوّل يعيّنه أميرال البحرية العثمانية مع احتفاظه بلقب بايلرباي الجزائر وشمال إفريقيا كما منحه لقب (كرلتش) CALRETS التي تعني (السيف). أمّا عن المسجد الّذي بناه علج علي في منطقة (طوب خانه) فله حكاية جميلة. في آخر حياته قرر (الكرلتش علي) بناء جامع يخلد اسمه، فذهب إلى السلطان (مراد الثالث) لأخذ الإذن منه إلاّ أنّ جواب السلطان العثماني كان مُفاجئًا بالنسبة للعلج علي فقد طلب منه أن يبني مسجده فوق الماء!!. بعد أيّام من التفكير اهتدى علج علي إلى فكرة فأمر العمّال برمي الحجارة في البحر وبذلك جهّز الأرضية التي سوف يبني فوقها المسجد وهو أوّل مسجد يشيّد فوق الماء وقد تكفل بتصميمه وبنائه المهندس المعماري الشهير (سنان) الّذي أعطى وعدا للكرلتش علي بأن يكون مسجده تحفة عمرانية وهندسية فريدة من نوعها وبالفعل فالجامع نسخة مصغرة من (آية صوفيا) ويُقال أنّ لونه كان ورديا مثل مسجد آية صوفيا تماما لكن مع مرور الوقت تحوّل إلى السواد بسبب الأدخنة المنبعثة من المنازل والبواخر التي تقطع البوسفور. يقول الشافعي تغّرب عن الأوطان في طلب العلى. وسافر ففي الأسفار خمس فوائد: تفريج هم واكتساب معيشة وعِلمٌ وآداب وصحبة ماجد.