يصعب تفسير كيف يفكّر النظام الجزائري بركنيه، الرئاسة وجهاز الأمن. ففي الوقت الذي أفرز فيه الحراك الديمقراطي الشعبي في تونس والمغرب ومصر واقعا سياسيا جديدا، تمثّل في تمكين الأحزاب الفائزة بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية، من تشكيل حكومات وتنفيذ برامجها المعروضة على الناخبين، يحدث عندنا العكس تماما. فما معنى ''إصلاحات عميقة''، على حد تعبير الرئيس بوتفليقة، إن كانت نفس السياسة بنفس الوجوه مستمرة في تسيير دفة الحكم؟ نظام الحكم لا يعترف بإرادة الناخبين نفس السياسة بنفس الوجوه لتسيير المرحلة المقبلة لما قال الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في خطاب سطيف، بمناسبة ذكرى مجازر 8 ماي 1945، ''طاب جناننا''، فهم الكثير بأن ساعة رحيل المتحكمين في سلطة القرار دقت. ولما قال ''انتمائي معروف''، فهم العديد أن الأفالان تنتظره أيام مشرقة. وعندما جاء التعديل الحكومي اتضح أن تغيير السياسات والمسؤولين غير وارد، وأن حزب الأغلبية الخاسر الأكبر. يبرر مساندو الرئيس اختياره شخصا من خارج الأغلبية، ليقود الطاقم الوزاري، بكون الدستور يعطيه الحق في تعيين وإقالة من يشاء، بحجة أن الوزير الأول وفريقه مطالبان بتنفيذ برنامج الرئيس. أما معارضو هذا الاختيار فيقولون إن بوتفليقة لو كانت لديه إرادة في أن تنسجم تصرفاته مع روح الإصلاحات السياسية ''العميقة''، التي تعهد بها في أفريل 2011، كان ينبغي أن تكون الخطوة الأولى تولية رئيس وزراء من الأغلبية. إذ ليس منطقيا، حسب أصحاب الرأي المعارض، أن يفرز خطاب الإصلاحات، ومسعى استشارة الطبقة السياسية والنقابات والجمعيات، وزيرا أول لا لون، ولا انتماء حزبي له. بعبارة أخرى، كان يفترض أن يأتي خطاب الإصلاح بشيء جديد، يقطع مع السياسة المنتهجة في إدارة دفة الحكم منذ .1999 والجديد هو أغلبية جديدة جاء بها استحقاق وفّر فرصة للرئيس بأن يترجم وعوده بالإصلاح بتعيين، على الأقل، شخص من الأغلبية لقيادة الحكومة. أما الأصل فهو أن يشكّل الحزب الذي فاز بالأغلبية الحكومة. لكن الذي حصل أن رأس الأغلبية، عبد العزيز بلخادم، طُرد من الحكومة الجديدة، ومحت السلطة كل أثر لجبهة التحرير من وزارات السيادة الخمس، مع أنها حائزة على أكثر من 200 مقعد بالغرفة البرلمانية الأولى. أكثر من ذلك، أقصت السلطة الحزب الثاني في ترتيب الفائزين في الانتخابات، الأرندي، من رئاسة الوزراء. بل أبعدت أمين عام هذا الحزب نهائيا من الطاقم. في المقابل أدخلت فيه شخصين من حزبين لا أثر لهما في الغرفة البرلمانية الجديدة. ويرى المهتمون بالمخاض الذي أفرز الحكومة الجديدة أن السلطة لم تحترم إرادة الناخبين، مع أنها مارست ضغطا كبيرا على المواطنين حتى ينتخبوا، إلى درجة أن الرئيس وصف استحقاق 10 ماي 2012 ب''نوفمبر جديد'' تارة، وب''الاستفتاء حول تقرير المصير'' تارة أخرى. فما هي المقاييس التي على أساسها اختير عبد المالك سلال للمنصب؟ هل سيكون ولاؤه لمن عينه، بحكم أنه يفتقد لولاءات حزبية؟ كيف سيحاسب الناخبون الأفالان ويراقبوا مدى تحقيق وعوده الانتخابية، بينما لم تمنح له فرصة قيادة الحكومة؟ ويعطي اختيار تشكيلة حكومية، خارج ما أفرزته الانتخابات، مؤشرات واضحة عن عدم وجود إرادة سياسية في إحداث تعديل دستوري، ينتقل بالنظام السياسي من رئاسي، بصلاحيات كبيرة، إلى برلماني، يمنح فيه للنواب سلطة فعلية في مراقبة السلطة التنفيذية، وللأحزاب الفائزة بالأغلبية الحق في تشكيل حكومة، الأمر الذي يضرب في الصميم مصداقية وعود بوتفليقة بالإصلاح. عدم مجاراة الربيع العربي أعطى امتيازا إضافيا للسلطة إصلاحات الجزائر ''جانبت'' الديمقراطية بتقزيم تمثيل الأغلبية كما استثنى ''الربيع العربي'' الجزائر من غضب الشعوب على أنظمتها، سايرت السلطات منطقا ''إصلاحيا'' أبان، من خلال تشكيلة الحكومة الجديدة بقيادة عبد المالك سلال، عن مفارقة جلية، أبعدت رأسي حزبي الترتيب الأول في الخارطة السياسية. بغض النظر عن صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية، التي تتيح له تعيين وزير أول لا ينتمي بالضرورة إلى حزب الأغلبية، غير أن السياق السياسي العام، لما يفترض أن تكون عليه الإصلاحات السياسية، كان يدفع إلى تمثيل أوسع لحزب الأغلبية، إلا إذا كانت نتائج الانتخابات التشريعية ل01 ماي لم تملأ قناعات السلطة، في ضوء ما واجهته من انتقادات واتهامات بالتزوير. ولم تجار الجزائر التغيير، رغم استثنائها من تقلبات الربيع العربي، الحاصل في مصر وتونس والمغرب، حيث اختيارات الشعب أرست طريقا إلى تعيين قيادات حكومات تنتمي لأحزاب الأغلبية، ورسا تفكير السلطات على عهد تتبنى فيه ''الاختيار في التعيين''، بالنسبة للحكومة، لمنطق توازنات ترتبط رأسا بالموجود من كبار المسؤولين في مؤسسات أخرى، كمجلس الأمة والمجلس الشعبي الوطني والمجلس الدستوري، وغيرهم. ثمة اجتهاد مفاده أن عدم بلوغ المطالب الشعبية مصاف ما بلغته مطالب شعوب تونس ومصر، أبقى حرية اختيار الأشخاص ل''المناصب الأولى في الدولة'' على طريقته التقليدية، غير أن مصاف المطالب التي عبرت عليها بضغط أزاح نظامي بن علي ومبارك، لا تنطبق على المغرب، إذ حاز حزب العدالة والتنمية على قيادة الحكومة، بانتخابات لم يسبقها ''قلب النظام''، وبالتالي فإن الوضع في المغرب والجزائر لا يختلف كثيرا، عدا أن عبد الإله بن كيران، الذي يقود الحكومة في الرباط، من حزب الأغلبية، بينما عبد العزيز بلخادم، الذي يقود حزب الأغلبية في الجزائر، وجد نفسه خارج سرب الحكومة الجديدة. وإذا كان النظام في الجزائر يرى بأن البلاد ليست بحاجة إلى ثورة لتكريس الديمقراطية، فواجب، كما قالت لويزة حنون، على الحكومة أن تشكر هذا الشعب لصبره على الكثير من الأمور التي كان يمكن لها أن تؤدي بالبلاد إلى الهاوية. وإذا كانت الديمقراطية مفهوما يرتبط بإرادة الأغلبية، مع احترام الأقلية، فإن هذا المفهوم صار مجسدا فقط في تركيبة برلمان موصوف ب''خضرة فوق عشا''، وهو الهيئة التي زكت ''إصلاحات'' قيل بشأنها الكثير، على أنها ''أجهضت'' ولم تقدم إضافة للمسار الديمقراطي في الجزائر، عدا أنها أعادت، برأي العديد من فاعلي الساحة السياسية، البلاد إلى عهد الفكر الواحد وأحادية التفكير، من خلال تعويم الساحة السياسية بمجهريات أحزاب، ولسان حال السلطة يقول ''طلبتم الانفتاح واعتماد الأحزاب، هاكم ما تريدون وتحملوا المسؤولية''. الجزائر: ش. محمد حوار الأمين الوطني للإعلام في الأرسيدي حكيم صاحب ل''الخبر'' أصحاب القرار يرون أنفسهم غير مقيدين بالدستور أُعلن عن حكومة جديدة يقودها عبد المالك سلال، تضم خليطا من الانتماءات السياسية والمهنية، وتم إقصاء الأغلبية من الوزارة الأولى. ما هي قراءتك؟ من غرائب وعجائب النظام السياسي الجزائري أن الحكومة غير ممثلة للأغلبية البرلمانية، هذا إقرار بعدم شرعية ومصداقية هذه المؤسسات، ودليل على أنه بعد 50 سنة من الاستقلال أن القرار يتخذ في مكان آخر، في مخابر وليس على مستوى المؤسسات الرسمية. لقد أصبح لدينا وزير أول لا يحسب على حزب معين، وهم يقدمونه لنا على أنه تكنوقراطي، ولكن الأمر ليس كذلك، إنه ليس مستقلا فهو ينتمي لدوائر السلطة. هذه الحكومة نتاج توازن هش بين مختلف العصب في السلطة، وليست تتويجا لمسار سياسي تبع الانتخابات التشريعية. لكن الدستور الحالي لا يلزم الرئيس باختيار وزير أول من الأغلبية البرلمانية.. الدستور الحالي زاد الطين بلة، لقد تم تجاوزه، ومنذ 50 سنة لا يعد الدستور مرجعا في تنفيذ السياسات الوطنية واتخاذ القرار، ناهيك عن أن أصحاب الحل والعقد لا يهتمون بالإخراج القانوني والشرعية للمسألة، هم يرون أنفسهم غير مقيدين بالدستور والعرف الذي يقضي بأن الحكومة تأتي من الأغلبية البرلمانية، ويجب أن نقر أن الجزائر جمهورية موز، ولا زالت كذلك للأسف. هناك من يقرأ بأن تعيين وزير أول، وأغلب طاقمه، من غير الأغلبية، إقرار من السلطة بعدم شرعية المجلس الجديد.. السلطة الفعلية تقرّ من خلال تعيين حكومة من خارج الكتلة النيابية الرئيسية، بأن هذه الأغلبية نابعة من التزوير، وليس ترجمة لإرادة شعبية، فالمجلس الحالي منبثق من مسار مزور، لكن من جانب آخر السلطة استغلت هذا الوضع، وسمحت لنفسها بفرض حكومة غير تمثيلية، إدراكا منها بضعف البرلمان، وبما يتيح لها المناورة والتلاعب بمقدرات الشعب الجزائري. ونتوقع أن يؤيد البرلمان الجديد سياسات الحكومة، لأنه لو كان البرلمان الجديد نزيها لتجرأ على رفض الأمر الواقع. هناك مطالب في الساحة بحل المجلس الحالي، هل يكفي هذا لبناء شرعية سياسة حقيقية؟ الجزائر في حاجة إلى نظام ديمقراطي يحرر الشعب والإرادات، ومن هذا المنطلق يعد ملحا حل المجلس الحالي، والذهاب إلى مرحلة انتقالية. من مصلحة الجزائر أن يرحل النظام الحالي، وتهيئة الظروف لإجراء انتخابات جديدة تدفع بنخبة جديدة غير ملوثة، لبناء مشروع تنموي في خدمة الجزائر، لأن النظام الحالي عاجز عن ذلك. الجزائر: حاوره ف. جمال الناشط السياسي امحند أرزقي فراد ل''الخبر'' أكابر القوم يضعون الجزائر على كف عفريت هل توافق هذا الطرح: الرئيس بوتفليقة أدار الظهر لإصلاحاته، عندما قزّم دور الأغلبية في الحكومة الجديدة.. ما حدث مأساة، لأن المنطق الديمقراطي لم يحترم في التعديل الحكومي. المنطق يقول إن الحزب الفائز بالأغلبية هو من يشكّل الحكومة. وبغض النظر عن الطريقة التي حصل بها الأفالان على الأغلبية، فأنا، كمناضل من أجل الديمقراطية، أطالب بتمكينه من تشكيل الحكومة لإعطاء الفرصة للمواطن، ليحاسب هذا الحزب في حال أخلّ بوعوده. إن الجزائريين لم يصوّتوا لصالح الشخص الذي تولى رئاسة الوزراء، فلا يستطيعون إذن محاسبته. إن ذلك استخفاف بالسيادة الشعبية، فالشعب في هذه الحالة أسند أمر الحكم إلى زيد، في حين أعطاه أكابر القوم إلى عمر! لذلك أقول إن ما حدث عبث سياسي.. أليس من العبث أن تمنح السلطة حقيبتين لحزبين انهزما في الانتخابات؟! ماذا تريد أن تقول السلطة من خلال هذا التصرف؟ هو دليل قاطع على غياب إرادة التغيير لدى حكامنا. صحيح أن الحكم في الجزائر لديه أكثر من موقع، وللسلطة عدة رؤوس، لا يهم إن كانت متفقة فيما بينها. ومن السذاجة الانزلاق في هذا التحليل البسيط فما يهمني أنا هو التغيير الحقيقي، بينما التغيير الحكومي الأخير يؤكد عدم وجود إرادة في التغيير. وما يؤلمني أنه في مغربنا الكبير، في مصر وليبيا وتونس والمغرب، أدركت الأنظمة أن التغيير حان وقته. وتبقى الجزائر البلد الوحيد الذي يسبح فيه النظام ضد التيار الديمقراطي. ويؤلمني كثيرا أن أكابر قومنا فضّلوا وضع الجزائر على كف عفريت، بدل أن يحتضنوا التغيير السلس. فعندما تسند الحكومة إلى تكنوقراطي غير متحزب هذا يعني عدم وجود إرادة في بناء طبقة سياسية تتولى الشأن السياسي. ليس هناك عاقل في هذا العالم يفكر في بناء دولة حديثة عادلة خارج الطبقة السياسية، إلا عندنا في الجزائر! وللتاريخ أقول إن الرئيس السابق، اليامين زروال، الذي كان عسكريا، تفطن لهذا الأمر، عندما دعا، في لقاءات عقدها مع الأحزاب، إلى الاستعداد لاستلام مقاليد الحكم. فقد كان يرى نفسه مؤقتا في السلطة، وأن المستقبل للطبقة السياسية. هل صحيح أن ''الحركة'' التي قام بها النظام في 3 سبتمبر تعني أنه يحضّر للرئيس المقبل؟ إذا كنت تقصد إبعاد أويحيى وبلخادم، أقول إن هناك قراءتين لذلك. فإما هي نهايتهما سياسيا لتظهر شخصيات أخرى من الجيل الجديد، الذي يريده أكابر القوم. وإما يجري التحضير لدخولهما بقوة في المعترك لاحقا، بعد أن ينساهما الناس. لكن ما يهمني فيما جرى أن هناك فكرا ديمقراطيا يقابله فكر استبدادي، وأشعر بالمرارة كون الثاني هو المستفيد من التعديل الحكومي.