كلما يقترب شهر رمضان ، لا يفكر أغلب القسنطينيين، إلا في مكان واحد هو حي «السويقة»، الكائن بقلب المدينة، و يتوافدون عليه من أجل التسوّق و التحضير لرمضان و استقباله، و كذا استرجاع ذكريات الزمن الجميل، لما تمثله محلاته و دكاكينه و بناياته العتيقة التي تهاوى أغلبها، من تقاليد و عادات تترجم عراقة هذا الحي . روبورتاج : حاتم.ب «سلعة اليوم ليست ككل يوم» عبارة لصيقة بالسويقة النصر زارت السويقة في أهم محطة يتم اللجوء إليها ، عند الاستعداد لاستقبال رمضان ، دخلنا الحي من الجهة الجنوبية ،أين ترتفع أصوات التجار للترويج لسلعهم، بعبارات خاصة تحفز على الاقتراب ، و قد لاحظنا أن المحلات و الدكاكين العتيقة تستعمل ستائر مختلفة الأشكال و الألوان، إضافة إلى مظلات من الحجم الكبير، لتجنب تعرض مختلف السلع لأشعة الشمس. و ينتشر على جوانب المدخل الجنوبي للحي باعة الملابس و تجهيزات قديمة ، على غرار أدوات البناء والكهرباء، و عند التوغل أكثر يبدأ المسلك المحدودب ذي الأرضية المرصصة بالبلاط التقليدي ، يضيق ، فيضطر الزائر إلى مسايرة المارة في بطء في حركة السير نتيجة الكم الهائل من المتسوقين، و اللافت أن أغلبهم من فئتي الكهول والشيوخ. وعند مدخل المكان تظهر الجموع الغفيرة المحيطة بمختلف المحلات و الطاولات ، و بعد قطع بعض أمتار، وصلنا إلى مكان بيع المكسرات و الفواكه الجافة ، كانت المحلات مكتظة بالسلع، مع اصطفاف العديد من الزبائن بجانبها، و لا تفارق أذن كل مار من هناك عبارة «سلعة اليوم لن تتوفر كل يوم» وكذا عبارة «سلعة رمضان يا مواطن»، و يتفاعل بعض المتسوقين معها بالتوجه إلى البائع المنادي، فيما يتجه البعض الآخر إلى وجهة محددة ، بحكم تعودهم على التسوق في محل معين. و لاحظنا أن محلات بيع المكسرات و الفواكه الجافة، من أبرز الوجهات التي يقصدها المتسوقون ، سألنا بعض الزبونات عن النوعية و الأسعار المعروضة، فكان الرد أنها مناسبة ومقبولة، مقارنة بالأماكن الأخرى. و التقينا هناك بالحاجة جميلة، و هي سيدة طاعنة في السن تمشي بصعوبة ، فقالت لنا أنها من أبناء المنطقة و قضت معظم فترات عمرها وسط دروبها الضيقة، لكن ترحيلها رفقة معظم سكان الحي قبل 15 سنة، جعلها تعود لزيارته من أجل التسوق، قبيل كل مناسبة دينية رغم تقدمها في السن.واصلنا طريقنا فوجدنا طاولات خشبية بها أغنام مذبوحة ، وبعض الزبائن ملتفين حولها، ويقوم البائع بقطع أجزاء منها على جذع شجرة، مناديا أن ثمن الكيلوغرام الواحد من اللحم ألف و 200 دج، كما شدتنا الروائح المنبعثة من بعض المحلات الصغيرة المختصة في بيع البيتزا التقليدية «الفوكاس»، و واصلنا سيرنا نحو دكاكين القصابة. سحر الأزقة يجذب الزبائن وجدنا صعوبة كبيرة في السير ، نظرا لطوابير الزبائن التي تشكلت أمام مختلف المحلات المختصة في بيع اللحوم و النقانق. فهناك أسعار اللحوم معقولة، و يقابلها نشاط كبير للجزار الذي يقطع اللحم و يحضر النقانق في نفس الوقت، فيما يتكفل زميله بأخذ ثمنها من الزبائن. سألنا كهلا يدعى عمر كان بصدد انتظار دوره، عن سبب قصده لجزاري السويقة دون غيرهم، فرد بأنه يجد راحة نفسية كبيرة عند تواجده في هذا المكان، لأن التسوق هنا، حسبه، أصبح عادة يصعب التخلص منها، مضيفا أنه يصرف كل الأموال التي تكون بحوزته، أثناء تسوقه بمختلف محلات الحي العتيق. وقال المتحدث أن الإقبال لا يتعلق بالأسعار وحدها، رغم اعترافه أنها في المتناول، مقارنة بالأماكن الأخرى، وإنما ترجع لرغبة كل مواطن قسنطيني في استرجاع ذكريات الطفولة كلما زار تلك الأزقة، موضحا أنه يثق كثيرا في اللحوم المعروضة للبيع هناك ، بحكم أنه زبون في نفس المحل منذ سنوات، كما أن ما يقال حول اللحوم التي تعرض في هذا المكان، بأنها غير صالحة للاستهلاك مجرد افتراء و كذب، حسبه. أزقة عتيقة بأسماء معبّرة تتوارثها الأجيال خلال تجولنا عبر مختلف الأزقة، شدتنا رائحة القهوة التي كانت منبعثة من أحد الأزقة التي تشتهر محلاتها بطحن البن، وتسمى «سيدي بوعنابة»، و كان عدد النساء كبيرا هناك، وكن يحملن أكياسا كبيرة ، مشكلات طابورا طويلا يمتد لعدة أمتار. و يشعر المتجول في حي السويقة، وكأنه يكتشف جزءا من الكيان القديم لقسنطينة، فكلما يقطع أمتارا إضافية، توغل للداخل أكثر، و وجد أمورا جديدة كان يجهلها، على غرار سر تسمية بعض الأزقة التي تضمها أو تتفرع منها، وهناك استوقفنا أحد الشيوخ الذي اتضح أنه من أبناء المكان، وأكد لنا أن السويقة فقدت الكثير من قيمتها بمرور الزمن، لكن تاريخها لن يمحى مهما تعاقبت الأجيال ومرت السنوات، حسبه. وأضاف عمي السعيد ، 84 سنة، أن هذا الحي القديم به العديد من الأزقة على غرار «الصياغة» و»النحاسين» و»الحلواجية» و»الدباغين» و»الشط»، وهي أسماء استنسخت من نوعية الحرف التي كانت تميز كل حارة أو درب، وهي الأماكن التي لا تزال متداولة بين الأجيال الجديدة بعد أو ورثوها من الآباء والأجداد، ورغم اختلاف الأسماء، إلا أن الشكل نفسه، بنايات قديمة، ومسالك ضيقة ذات أرضية مزينة بالحجارة الملساء. يقطع 40 كلم لمعايشة الأجواء الرمضانية لفت انتباهنا أحد المتسوقين كان يحمل أكياسا ممتلئة، فعلمنا منه أن اسمه أحمد ويبلغ من العمر 65 عاما، و يتسوق هناك منذ 30 عاما، وأوضح أنه كان يقيم بالسويقة و يتجول يوميا عبر أزقة السويقة ، لكن بعد أن انتقل للعيش في المدينة الجديدة علي منجلي، أصبح يعجز عن التنقل يوميا إليها، لكنه يستغل التحضيرات لرمضان و يومياته من أجل الحضور إلى المكان الأقرب إلى قلبه، كما أكد. وأضاف المتحدث أنه في كل الأيام التي تسبق شهر رمضان، يضطر لقطع أكثر من 40 كلم من أجل التسوق في هذا المكان، فيشتري مختلف المواد الغذائية، على غرار اللحوم و المكسرات، التي تعود على اقتنائها من نفس البائع، لعدة سنوات نظرا لجودتها، كما يتسنى له تلذذ ما تبقى من نكهة الأجواء التي تسبق رمضان، فيطوف عبر مختلف الأزقة لعدة ساعات. انتشار المنحرفين يهدّد النشاط التجاري تحدثنا مع بعض أصحاب المحلات ، فأطلعنا جلهم أنهم يزاولون منذ سنوات طويلة مهنة ورثوها عن الأجداد ، وقال أحدهم إنه يعمل جزارا منذ 60 سنة في نفس المحل، مضيفا أن الحي أصبح لا يطاق ، و بأنه مضطر لمواصلة العمل لأسباب قاهرة، خاصة و أن إقبال الزبائن في السنوات الأخيرة تراجع كثيرا نتيجة الترحيلات العديدة التي مست وسط مدينة قسنطينة، كما أكد، مشيرا إلى أن الفترة التي تسبق المناسبات و خلال شهر رمضان تنتشر الحركة التجارية في الحي.و تابع المتحدث أن ترحيل سكان السويقة ، أدى إلى انتشار المنحرفين في مختلف الأماكن المنعزلة، موضحا أن الفترة المسائية تعرف انتشارا كبيرا لباعة المخدرات و الحبوب المهلوسة في كل أرجاء الحي، ما يؤدي إلى تعرض الزبائن وبعض أصحاب المحلات إلى اعتداءات.